سعيد المودني
قاعدة صارت تحكم تصرفات منتسبي أحد المكونات السياسية في هذا البلد السعيد: كلما طفا على سطح الأحداث الوطنية حدث يثير اللغط والامتعاض والتذمر، إلا وسارع "العداليون" إلى إحياء نغمة النواح والعويل وتعليق المسؤولية على أقطاب "التحكم"، وأذناب التماسيح، واستحقاقات التوافق، وإكراهات "السخرة" لدى رأس الدولة،،، والهرولة نحو انتقاد "الحائط القصير(الحزب)" بدل الاتجاه جهة "الحاكم/الفاعل الحقيقي(رئيس الدولة)"...
ومسوغ هذا الاتهام القار أن ما يصدر عن الحكومة مما لا يرضي الشعب لا يمت بصلة إلى مواقف الحزب، وإنما هو نتيجة حتمية لبنية النظام وأسهم المكونات الحكومية،، و"التحكم" المتوغل، والتوافق الواجب في هذا الواقع المعقد!!!..
والحق أن ما يجهر ببعضه القوم صحيح، وإن كنت لن أقف هنا على الضياع في تموقع المتهِمين والسذاجة في تقديرهم والتخبط في تحالفاتهم والتضارب في تصريحاتهم، إلا أن المؤاخذة مآخذتان.. الأولى، وسأعود لها بالتفصيل في وقت لاحق إن شاء الله، أن البنية سواء القانونية أو الواقعية للنظام معروفة واضحة، لا يتعامى عنها وعن أثرها وعمقها إلا متغاب، وعليه لا يجوز لهم التحاجج بإكراهاتها وقد دخلوا الحلبة وهم يعلمون أدق تفاصيل اللعبة، أما الثانية فهي جبن الناس عن تحديد المحدد وتعيين المعين، والاكتفاء بإطلاق الكلام المرسل دون أدنى عنوان..
والقول متكرر تكرر الأحداث، ومناسبته هذه المرة اتفاق التطبيع المبرم مع الكيان الغاصب، وجانب التمحيص من القاعدة في هذا المقال هو إطلاق "التحكم"، وإن بألفاظ مستعارة،، غير أني سأحتفظ هنا بالألفاظ الأصيلة الأصلية التي تعود ملكيتها الفكرية لرموزهم في نسختهم الحكومية الأولى، وسأختزل المشهد، ومعه العدة الاصطلاحية المتداولة، في الرمز الأكثر استعمالا: "التحكم"..
كما سبقت الإشارة إليه، يبقى أكبر تخبط أن الناس يطلقون التهم دون تحديد أي متهم: من يمارس هذا "التحكم" الذي ما فتئ القوم يكررونه؟ هل بشر ممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ أم أشباح العفاريت؟؟!!!..
إذا كان الفاعلون معروفين، وجبت تسميتهم وفضحهم ومتابعتهم "وفق القوانين الجاري بها العمل في "دولة المؤسسات"، "دولة الحق والقانون""، ما داموا يؤمنون بالنظام بـ"مؤسساته" القائمة التي دخلوا اللعبة بضمانتها.. لأن مبدأ "المؤسساتية" لا يترك فراغا في المسؤولية، بل هو يبدأ بتحديدها ويبني على ذلك..
وإذا كان الكلام مجرد رجم بالغيب، فالأجدر بالراجم أن يخرس ويكف عن محاولات الاختباء والتستر و"التتييه" والتعميم والتعويم..
أما في حالة ما إذا كان "التحكم" موجودا فعليا، لكنه يستعصي على حتى على التحديد فضلا عن المواجهة والمقاومة والاختراق، نتيجة متارس أقامتها "الدولة العميقة"، وهذا هو الواقع، فالحل المتاح هو الانسحاب والمقاطعة والعزوف حتى يتوسل الواقفون وراءه الإنقاذَ من "السكتة القلبية" في نسخها المتكررة، لأنهم لن يستطيعوا الاستمرار دون غطاء، ولو استطاعوا لاستمروا في طريقهم، وما التفتوا إلى اشتراكي،، ولا إلى إسلامي بعده،،، وآنذاك يمكن فرض الشروط التي من شأنها أن تبطل مفاعيل "التحكم" وشعوذات الدولة العميقة، لتبقى الذمة بريئة معفاة من أوزار التغطية على المفسد والتستر عليه الذي يستفيد هو من الامتيازات المادية والمعنوية ما ظهر منها وما بطن، ويبوء الساتر بالسيئات في الدارين مقابل فتات..
في ذات السياق، تجدر الإشارة أن هذا الانسحاب الذي يتنكر له ولإمكانيته وجدواه القومُ اليوم كان مطروحا عند زعمائهم في "خطاباتهم التعبوية"، وسيعود حتما عندما يعودون إلى موقعهم الأصلي المنتظر.. وهو على كل حال حاضر في كل الصراعات التي يكون الوضع فيها "ممشكلا"، كما هو الحال عندنا: من يحكم/يتحكم؟؟!!!..
أما الاستمرار في الدوران في الحلقة المفرغة والتلبيس على الناس، دون تحديد من يتحمل مسؤولية هذه "الوضعية-المشكلة"، فهو شيء مقرف مستفز ينم عن عدم التوطين وخطأ التموقف، وقدر كبير من التغابي والتدليس، لا يليق، والأهم أنه يتنافى مع المنطق، ذلك أن الوضع المنطقي لا يحتمل غير احتمالين اثنين:
- إمكانية العمل، وهذا ينبني عليه التنزيل والتطبيق لكل النصوص والقوانين والبرامج والوعود، بما يقتضي ذلك من فضح وتعرية ومقاضاة كل من يعرقل تطبيق القانون أيا كان؛
- عدم وجود هذه الإمكانية، وهذا تنبني عليه ضرورة الانسحاب من هذه اللعبة القذرة("حط السوارت" كما قال كبيرهم ذات يوم قبل أن يذوق حلاوة خدمة المخزن)، وإخلاء المسؤولية المادية والمعنوية، وترك "المتحكمين" في مواجهة مباشرة مع الشعب.. أما الموقف الضبابي المتذبذب، فلن يقبل به إلا أحمق أو مستفيد أو متورط..
إن أدنى واجب على "المؤمنين" بالمسار هو الوفاء بالوعود وتفعيل القوانين ما داموا يرون إمكانية تحقيق ذلك في ظل الظروف وقواعد اللعب الحالية، ويدّعون أن البلد قام بثورة بيضاء عبر الصناديق، وأنه حصّل دستورا ثوريا يتجاوز الأعراف البريطانية.. وإلا وجب الاعتراف بالخطأ في تقدير الموقف، والإقرار أن الأمور لا يمكن أن تسير بهذه الطريقة، بل لا مفر من حل "راديكالي"،، هلموا نتفق ونتوافق عليه، دون إقصاء أي مكون، ودون أن يتخندق أحد في صف المتغلب.. أما إذا كان اتهام "المتحكمين" وانتقادهم عبر التصريحات الشفوية المرسلة أو مرافعات جلسات البرلمان، إذا كان هذا هو غاية إمكان وسقف البرلمانيين أو "المسؤولين السياسيين الحكوميين"، فهم معفون منه، لأن دور الضحية الضعيف المعدم يعيشه الشعب واقعا، وكذلك لأن النشطاء من أبناء الشعب يقومون بالواجب وزيادة مجانا دون أجر أو تعويضات أو امتيازات أو صفة أو حتى تكليف الدولة مالَ وجهد الانتخابات.. فإذا ما رغبوا في الاكتفاء بمزاحمة المواطنين المستضعفين في ما يقومون به، فإن "المحسنين" يتطوعون أن يفتحوا لهم "حسابات" في "الفيس بوك" كي "يؤدوا رسالتهم"..
إنا لا نبحث عن "النوائح" من أجل الولولة والنحيب.. لا نبحث عمن يبكي لنا أو معنا.. لا نبحث عمن يتباكى -مثلنا- على رؤوس الأشهاد، لآن 40 مليون مغربي كلهم يبكون.. فإذا كان هذا مبلغهم من التحقيق والإنجاز، فليبقوا معنا، في مستوانا، نبكي معا، يؤانسوننا في مجالسنا "الشعبية"، ونوفر مصاريفهم الفلكية،، وننتظر سويا قدوم "مول الشي" المخاطَب لننظر ما يفعل في شأننا، أو ننتظر قدر الله جل وعلا!!!..
نحن في حاجة لمن يفعّل الإجراءات والمساطر المتاحة، ويعمل على إيجاد واستصدار غير الموجود منها.. أما إذا كان هذا هو السقف بـ"حكم "القانون""، فعلى الذي يعتذر ويتعذر ويبرر ويتدثر ويتوارى وراء "الترسانة القانونية" أن يعلم أن مناط احتجاجنا هو تلكم الترسانة الجائرة التي وضعت لحماية فئة معينة،، وأحيطت بقلاع يستحيل اختراقها.. أمَا لو أنّا رضينا بها،، أو وجدنا مدّخلا لـ"التعامل" معها لما عارضناها مبدئيا كما نفعل..
إن هذا التخبط هو مناط الاعتراض، لأن الاحتجاج قائم على المشاركة في ظل هذه الثوابت، ذلك أن "أجهزة النظام" قد عطلت فعلا "أجهزة الدولة" في تركيبة أو توليفة هجينة أصبحت تتميز بها وتنفرد الاستبداديات في العصر الحديث، بحيث تلبس على العامة أمر دنياها، فلا يعرف الناس المسؤول ولا المخاطب، تماما كما هو حاصل الآن: الكل يشتكي ويمتعض ويعترض،، والخبل أن كلّا من الشاكي والمشكو منه متفقون، ويقرّون بعضم،، ويصفقون على التهم!!!..
إن الهجن الذي نتحدث عن شذوذه هنا له شواهد موثقة بـ"الصوت والصورة"، حيث توجد للسيد "رئيس الحكومة" السابق -على سبيل الذكر لا الحصر- تصريح حرفي لإحدى القنوات العربية يعلن فيها أنه لا يحكم، وإنما فقط يساعد الملك().. بل له في ذلك تصريحات عديدة يتراوح الوضوح فيها بين الجزم بعدم الحكم إطلاقا، وبين القول بالمساعدة("السخرة")!!!..
إن أصحابنا "المشاركين المتحكم فيهم" يتخبطون كمن يتعارك في الظلام.. فهم لا يقدمون لك أحبابهم، ولا أعدائهم. الكل صالح، الكل طالح. الكل يساندهم، الكل يعاندهم. الكل يريد الخير لهذه البلاد، لا أحد يريد الخير لهذه البلاد. المجال مفتوح لمن يريد العمل، هناك تماسيح وعفاريت ودولة عميقة وتحكم يمنعون العمل!!!.. لسان حالهم ومقالهم تصريحات متناسلة متسرعة متعارضة..
ويبقى "البيجيدي" يعيش بين التحكم والتوافق والسخرة..
هي كلمة واحدة: "العمل السياسي" في هذه "الدولة" تجاوز مرحلة الميوعة إلى درجة التبخر..
