الرئيسية | أقلام حرة | ثمن المغالطة

ثمن المغالطة

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
ثمن المغالطة
 

قلنا أن للنظام خدعا لجأ إليها تقيه المواجهة المباشرة مع الناس، وتحفظ له مقامه، ويستخدمها منشفة يقطع فوقها المراحل.. وأهم هذه المناديل هي الأحزاب التي تلعب دور الكمبارس كمؤسسات وسيطة بأقصى حد للمفهوم القدحي للوساطة والسمسرة..

والحديث عن الأحزاب تختلف أهميته باختلاف الحزب المراد التعرض له.. ذلك أن هناك "أحزاب "حشومة""، لا يليق الحديث عنها من طرف متوضئ، وهناك بين بين، وهناك أحزاب أحزاب، لكنها أساءت التقدير، وتؤدي ثمن غلطها ومغالطتها للناس.. والمؤاخذة تكون على قدر الجرم وعلى قدر منزلة المآخذ، وكلا المعيارين يجعل حزب العدالة والتنمية يستحق أقسى مؤاخذة..

فإذا كان الحزب هو التنظيم الذي ينضوي تحته أناس مختلفو المستويات الاجتماعية والتعليمية والجغرافية، متجذرون في المجتمع، يتقاسمون رؤية سياسية واحدة دون أية اعتبارات أخرى عرقية أو جنسية أو اجتماعية... من أجل قيادة المجتمع وتسيير شأنه العام، فإن حزب العدالة والتنمية لم يكن، قبل الانتخابات، هو الحزب الأبرز فحسب، بل كاد يكون هو الحزب الوحيد(بالمفهوم المحدد سابقا) في الساحة السياسية الوطنية، نظرا ليس فقط لعدد منتسبيه والمتعاطفين معه والمؤمنين بمنهجه(من حيث المبدأ)، بل أيضا، وأساسا، بسبب حجم تغلغله في مختلف طبقات وشرائح المجتمع أفقيا وعموديا، بحيث كان ينتمي المنتسبون  لمختلف الفئات سواء من حيث الحرف والمهن، أو من حيث المستوى التعليمي، أو من حيث الانتماء والمستوى الاجتماعي والثقافي والطبقة الاقتصادية، أو من حيث الامتداد الجغرافي والعرقي...، وكذلك بسبب حركية أعضائه وانضباطهم وتمثلهم لمرجعيات الحزب وأدبياته، وحضورهم الفاعل والنشيط في الساحة السياسية والحركية الجمعوية والنقابية والمدنية بصفة عامة... والأمر طبيعي نظرا لمسار الحزب وانبثاقه عن تنظيم دعوي تشكل التربية جزء أصيلا من برنامجه..

وبما أن الحزب قد قبل دخول حلبة المبارزة قبل التأكد من تحديد قواعد اللعبة والتمكين من الأسلحة، فقد تم استنفاذه في مدة قياسية، وسقط سقوطا مدويا مريعا أسرع مما خمّن أكثر المتشائمين، نتيجة سوء التقدير والقابلية للاستدراج والاحتواء والإفراغ... حتى وجد نفسه متورطا في معركة لا سلاح له فيها، ولا يمتلك أمره للمضي أو الانسحاب، بحيث يصبح مقرونا بالفاسد لدرجة أن نتيجة أحدهما هي بالضبط نتيجة الآخر، أي تجسير طرق الفساد، والتموضع موضع الشبهة، وافتقاد الثقة، وتلويث السمعة، وشرعنة الاستبداد، وإطالة أمد الطغيان، وتحمل المسؤولية الواقعية والشرعية معه في مصائبه، وتقاسم تبعاتها، وتوريط الشعب في عبث هذه اللعبة القذرة بقواعدها الحالية المجحفة بالتحالف مع رأس الأفعى وتأجيج حنق الناس..

كما سبق، من ركائز الحزب الاستناد على حركة ذات منطلق شرعي والانبثاق منها.. لكن يبدو أنه نسي أن المنطلق الشرعي ليس شعارا وليس ضيّقا.. بل هو عمل وتصور شامل وكلي، لا يعذر من جزأه أو قزمه أو دجنه أو تمادى في هتكه.. لذا يجب الدفاع عن الشعب في وجه كل من ظلمه أو خذله أيا كان مبرره أو مقاربته المعلنة ولو "صلحت" نيته، لأن أحسن العمل ما كان خالصا، لكن أيضا صوابا. ومسألة الصواب غالبا ما تكون أهم،، بل في كثير من الأحيان هي ما يشكل الفارق..

إن الحزب قد حرم المشتركين معه في المرجعية من مبرر مهم للسعي للحكم قصد تطبيق ما يرونه صوابا.. فقد كان الإسلاميون يحتجون -من ضمن ما يحتجون به- بعدم تجربة الحكم الإسلامي، فأبطل إخوان العدالة هذه الحجة دون وجه حق، فلا هم حكموا، ولا هم تركوا الحجة قائمة، حتى صار كل متكلم مهما دنا شأنه يستشهد بفشل "الحكم الإسلامي" في "الحكم"!!!..

لقد كسَر زخم الاحتجاجات تحت عنوان "الإصلاح من الداخل، بالتدريج، في ظل الاستقرار".. وسوّق لـ"دستور مثالي" يحقق "ثورة بيضاء"، "ثورة الصناديق"، و"يؤسس لصلاحيات كفيلة بالقطع مع الفساد ومحاربة الاستبداد".. فقدم وعودا انتخابية تفوق الوردية إلى الذهبية. ورفع سقف الانتظارات،، ثم تحالف مع من اتهمهم أمس بالفساد. وغض الطرف عن الريع، بل وحماه. ومشى وراء "التماسيح" التي ما فوضه الشعب إلا لمحاربتها. و"أصلح" إفلاس الصناديق السيادية من جيوب وأعمار المقهورين ليغطي على اختلاسات اللصوص. وعفى عن المفسدين. ادعى فتح تحقيقات ولم يعلن عن نتيجة أي منها...

لذا أن يوضع الحزب تحت المجهر، لأنه فوت ظرفية زمن التفتق الحقوقي والإعلامي، ووقف سدا منيعا أمام رفع سقف المطالبة بالإصلاح الحقيقي، فكان بمثابة فرامل ABS للحراك الحالم الجارف الذي ساد حينئذ، ولن ينسى له الناس هذا!!!..

إن مسخ وخزي الحزب في التدبير لم يكن -في غالبه على الأقل- اختياريا، وإنما اضطراريا تحت تهديد "العفاريت" و"التماسيح" و"قوى التحكم" و"الدولة العميقة"،، ببساطة لأن سقف "التغيير" الذي ناور الحزب لخفضه عن طريق عمله على انحسار وهج الحراك آنذاك لا يسمح بغير هذا،، بعيدا عن مظاهر بعض النصوص الفضفاضة، أو الموغلة في الحربائية والالتوائية والتداخل.. فالحزب إذن مضطر لا بطل، وفي ظل "ربع تطييبة" هذه التي حصلت، الأجدر القول أنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن، انسجاما مع بنية الفساد الملخصة في: "كلْ وكّل"، مَن قبل بوجودها،، فُرضت عليه شروطها..

إنه يؤدي ثمن مغالطته للشعب ومساعدته للمخزن في الالتفاف على المطالب الشعبية واحتوائها وتقزيمها في بعض بنات الحبر.. فالمنظومة المخزنية هي أكثر مكرا بحكم قِدمها وثباتها النسبييْن بالمقارنة مع "المتغيرات" الأخرى الأقل قدرة وذكاء بالضرورة بفعل "فارق السن الخيالي".. وهذا يمكّنها من حسن تقدير الموقف واختيار الأحسن و"الأضمن".. وإلا فقد كان بإمكانها الإصلاح بنفسها إن أرادت. وبما أن البوادر على الأرض لا تفيد ذلك، يكون المكر هو ما جعلها تلتف على الحراك الشعبي بمساهمة قوى عدة أساسها "العدالة والتنمية"، مظهرة "ثورة بيضاء"، مبطنة "إعادة انتشار"، و"تعزيز مواقع".. ذلك أن الإصلاح إما يكون أو لا يكون.. وبما أن المنظومة المعنية لم تَقدم عليه بدارا طول سنين الرخاء، فهو لن يكون أبدا برضاها، وإلا لأقدمت عليه مبادرة حبا وكرامة وتطوعا، دون ضاغط، ولا مراوغة، ولا وسيط..

إن وجه الانتقاد يجب أن لا يكون هو التمظهرات الإجرائية التقنية الشكلية، حتى وإن رقت إلى تنفيذ سياسات أو طرح بعض الخيارات اللاشعبية، المجحفة،، إنما الإشكال مبدئي،، استراتيجي: لمَ المشاركة في لعبة غير متكافئة محسومة نتائجها سلفا، الغرض منها فقط إضفاء الشرعية، والإنقاذ من "السكتات القلبية"؟؟!!!..

 

لا أسف على من استعمل أحلام الناس ولو فقط من باب إساءة التقدير،، والجرم يستعظم من أصحاب المنازل..

 
مجموع المشاهدات: 1516 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة