سعيد المودني
نشارف على غلق الملف وإنهاء محاوره.. والمشهد الأخير في العرض يبقى هو المنتج الذي نجح الاستبداد في جعله نتيجة وسببا في نفس الوقت باستخدام "توليفة" مبتكرة غاية في السحر الماكر!!!..
وإذا كانت أركان الاستبداد قد استولت على معظم مكونات الملف، فإن المظاهر والنتائج هي الدليل والشاهد على حجم جريمة المستبد المتعاقب ومنظومته الورمية المتحالفة.. ذلك أن الأثر لم يتوقف عند البنى المؤسساتية الجمعية كالتخلف العلمي والانهيار الاقتصادي والاهتراء البنيوي وشيوع الفقر والبطالة والأمية والمرض... وغيرها من المظاهر المادية، بل تعدى ذلك إلى البعد المعنوي القيمي الفردي، بحيث أنتج مسخا على هيأة بشر، مقلوب القيم معكوس الأولويات.. وهذا في مختلف طبقات المجتمع، بدء من الطفل الأمي، وصولا إلى الكهل المؤطر -تعليميا- بشهادة أكاديمية عليا!!!.. وسنضرب أمثلة عشوائية لهذا الحضيض، تتناول أوجها متنوعة مختلفة متباينة..
للإنصاف، يليق التنبيه أن هذه النتائج ليست حصرية للأنظمة المستبدة المحلية، بل هي نتائج لتضافر وكلاء الاستبداد المحلي وقوى الإفساد الدولي، في رغبة مشتركة لاستمرار السيطرة على الشعوب عامة، والمنافس الحضاري على وجه الخصوص.. بصفة عامة جموح عبدة الشياطين لنشر وسيطرة وسيادة التفاهة،، لكن الدول المحترمة تحصن مواطنيها بالبرامج التعليمية البانية والبدائل الإعلامية الهادفة، فلا ينجرف إلا من بغى، أما المزارع فلا تدخر جهدا في مكاتفة الشياطين بَلْهَ عبدتهم حتى لا تقوم لمقاومة قومة..
المثال الأول يتعلق بدأب، بل إدمان من له المصلحة والقدرة على خلق منافسات دونكيشوطية قالبة للمفاهيم معوّمة للمصطلح، عبر إخراج موجات متجددة من "موضات" من "التحدي"!!!.. والاستنكار هنا وإن كان متعلقا بمضمون "التحدي" المطروح في كل حالة، وما فيه هدر وتفاهة وميوعة،، إلا أن الاستهجان أكثر ما يتعلق باختيار مصطلح "التحدي" وما يرتبط بذلك الاختيار من إسفاف وتحوير مخل..
كما سبق هي ارتدادات مكرورة في الزمان والمكان، أضرب منها مثالا مر قبل أشهر، وكان يتعلق بنشر صور الشخص وأهله وعياله..
إن الأصل في التحدي أن يدخل الفاعل في منافسة -مع الآخر أو مع نفسه- تتطلب مغالبة القدرات أو قوة تحمل الجانب الجسدي أو العقلي أو العاطفي لدى رافع المتحدي، أو مقاومة الاستجابة لميول ذاتية ملحة يستسلم الإنسان لها عادة.. وعليه، فإنا نحوم حول أبجدية التحدي عندما نحاول أن نفعل شيئا مجاوزا لطاقتنا الجسدية أو الوجدانية أو العقلية قد يعرضنا للمجازفة بحياتنا أو سلامتنا أو أمننا أو حريتنا أو مصادر رزقنا... وبهذا التحديد، فإن الناس لن يختلفوا أن لا وجه للتحدي في نشر الشخص صورة له أو لأولاده على منصات التواصل الاجتماعي.. بل ربما يتجسد التحدي في عدم النشر، ما دامت الرغبة في النشر والمباهاة هي المسيطرة. فيكون إذ ذاك النشر رضوخا،، والتحدي هو الإحجام!!!..
شخصيا أتحفظ على مبدأ نشر المتعلقات الشخصية، ما لم تكن لغاية أو منفعة تهم المجتمع، وفي الحد الأقصى أعارض الإدمان عليها، ناهيك عن جعلها المادة الوحيدة والعملة الفريدة للنشر لاعتبارات، منها أن من الناس من ينشر صور زوجته أو ابنته والمعطيات المتعلقة بهويتهما، ولو شخص سأله شيئا من ذلك بشكل مباشر، لانتفض "غيرة"،، ولا أدري والله فضل نشر صورة أو اسم لملايين العامة والغرباء، على تسليمها لشخص يدا بيد؟؟!!!.. ومنها كذلك أن ما يرغب الإنسان في نشره كي يعرف عنه، غالبا ما يكون مدعاة فخر بما يحتوي من نعم يرفل الناشر فيها.. وهو ما يفتح أبواب التباهي والتفاخر الاجتماعي، وما يتولد عن ذلك من إثارة توق المحرومين.. ومجال التفاضل يمكن أن يبتدئ بالسلامة أو البنية الجسدية التي يفتقدها المعوق والمريض والضعيف، ويصل غاية المركوب أو المأكول أو المشروب أو الملبوس أو المسكن أو الأثاث... مرورا عبر الأبناء.. ومنها أيضا أن هناك أولويات إذا ما تحقق مستوى منها يمر الساعي إلى المستوى الموالي.. فهل حققنا شروط العيش الكريم المشترك المادية والمعنوية لغالبية أفراد المجتمع كيْما نجنح إلى تقليد من ارتقى إلى الكماليات، فصار يتقاسم لحظاته مع بني وطنه الذين لا يختلفون عنه كثيرا في مستوى المعيش؟؟!!!..
وعلى أي حتى إذا "جوّزنا" شيئا من النشر، فإن تسميته "تحديا" يستحيل أن نجد لها مسوغا!!!..
إن التحدي بالنسبة لنا يجب أن يكون مجاهدةَ النفس وحملها على تخطي الخضوع للحكم المؤبد بالانحسار في مجال تلبية شهوتي البطن والفرج للكائن وذريته، وعلى الترفع عن الانغماس في الشهوات الحيوانية التي لا تميز الإنسان عن الحيوان، فضلا عن أن تميز
المسلم عن الكافر والكبير عن الصغير والمتعلم عن الجاهل... يجب أن يكون هو الجهر بالحق ومقاومة الظلم والدفاع عن الضعيف والسعي لتحقيق الحقوق ومأسسة المؤسسات... عدا هذا، نكون مستقلين عن التحدي بمفهومه المتعارف عليه، ودخلنا في "تحديات" ما أنزل الله بها من سلطان، ولا امتلكت من المفهوم الأصيل للفظ قدرا، بل هي محض مدلول مسخ للمصطلح تكالبت في إيجاده والالفاف حوله منظمة التفاهة العالمية مبادرة، والأقزام المحليين توطئة وتمهيدا وتسهيلا..
