الرئيسية | أقلام حرة | عيوب في أساليب التواصل

عيوب في أساليب التواصل

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
عيوب في أساليب التواصل
 

في جل النقاشات تتفرع المواضيع المثارة إلى شُعب بعضها في الشكل والآخر في المضمون. وتلك المتعلقة بالمضمون منها ما يرِد في سياق مبرَّر مقبول كاستشهادات أو استدلالات على صحة الموقف، ومنها ما يأتي خارج السياق داعما أو داحضا لموقف لم يُطرح، بل ربما يكون مجرد توقع واستنتاج استباقي لمآل الكلام، وكأن الأمر تجلّ لمونولوج افتراضي يخالج النفس..

في المضمون، تشكل المواضيع المثارة مجالات يمكن لمساحات التقاطع بينها أن تكبر حد التضمن، فتشكل دوائر إحداها داخل الأخرى، بحيث يؤدي الاتفاق في أضيقها بالضرورة إلى الاتفاق في أوسعها.. أو يكون حيز هذا التقاطع منعدما. فيكون الاتفاق أو الاختلاف في إحداها غير مؤثر في غيرها. أي يكون هناك استقلال تام بحيث يمكننا الاتفاق هنا والاختلاف هناك أو العكس.. وقد يكون الحيز بين بين، ويكون تفاعل أو تأثير قواعد الاتفاق أو الاختلاف تبعا لذلك..

وفي كل الأحوال لا يمكن الخروج من كل المحاور برأي موحد.. فالمطابقة في الكل ليست من شيم البشر،، ولم يُخلقوا لأجل ذلك.. ثم إن الاختلاف بين المتربين في بيئات العالم غير المصنف هو أكثر حضورا، ليس فقط لقلة أو انعدام المعايير أو الضوابط الموضوعية في مكتسباتهم المعرفية، بل وأساسا للعامل النفسي ذي المنشأ التربوي، وهو الانتصار للذات والتعصب للأنا،، ولو بدرجات..

والظاهر أن الأجدى والأصلح في النقاش والتحليل والتأصيل والشرعنة هو الانطلاق من المطلق والمجمل والأشمل والعام، لأن ذلك يوسع أفق الاستدلال، ويمكّن من وضع معالم ومحددات ناظمة، ويضيّق سبل الاختلاف العالقة في فروع التفاصيل.. فالمفترض إذن أن ننطلق من المطلق نحو النسبي، ومن العام نحو الخاص، ومن المجمل نحو المفصل، ومن الأهم نحو المهم..

إن دائرة النقاش أو مجموعة تعريفه يجب أن تحدَّد وفق مساحة التقاطع/الاختلاف التي تجمع/تفرق بين المتناقشين، وعليه لا يمكن ولا يستقيم، مثلا، وفقط مثلا، الخوض في نقاش حكمة مشروعية التيمم مع من لا يؤمن بالإسلام أصلا، لأن ذلك ضرب من العبث،، إن لم يكن العبث كله..

يجب أن يكون النقاش "مياوما" ابن لحظته، يعالج فيه كل موضوع بشكل مستقل وآني، ويقيّم كل مضمون على حدة، يُرد على المردود عليه فيه بنقض الطرح بطرح مضاد، بغض النظر عن "موقع" مصدره/صاحبه، وليس بحكم عام سابق جامد ثابت متعلق بمحذوف.. وما يقدَّم فيه من معطيات محددة يجب التعامل معها بإجرائية مباشرة كالتكذيب أو النفي أو التوضيح أو التصحيح أو التبرير...

يجب تجنب "نظرية الإصرار القبلي على الخلاف" التي تتمظهر في ظاهرة تأطير المحاوَر وخندقته بما تجمّع في ذهن المحاوِر من أحكام وتصنيفات قبلية سابقة قارة، وكذا عدم تعامل المتحاوريْن مع كل نص وسياق على حدة، بوصفه يمثل أرضية جديدة يمكن أن يضيق فيها مجال التقاطع أو يتسع أكثر من الحد المحدد سلفا بشكل عياري قار.. ذلك أن عدم التموقف ابتداء من أي مصطلح أو طرح قبل موقف تأملها فضيلة من الفضائل تمكّن من منافسة سيطرة الأحكام المسبقة، وتقي المتلقي شر الإعراض المبدئي عما يمكن أن يبدو صادما، وعند التحقيق والتحقق يغدو مثار اتفاق تام..

غير أن الاختلاف، بل الخلاف، في منهج الاستدلال له مظاهر متنوعة ومتعددة، والأهم آثار وتبعات كثيرة ومؤثرة، تورثه خوارم، بل نواقض تهدم أسسه كالمناورة، والقفز، والخلط، وعدم الالتزام المنهجي، و"استعارة" منطق لغير مجال تحكيمه، والالتجاء لحقل مفاهيمي أو مرجعي غير الذي ينطلق منه المحاور... وغيرها من وسائل التشتيت والهروب والنسف،، كمن يتخذ الموقف أولا، ثم يبحث كيف يسنده ولو بليّ عنق النصوص، أو بترها، أو اجتزاؤها، أو الاستدلال بمنطق مجال في مجال آخر لا يخضع لنفس المنطق إطلاقا، وهذا بممارسة دغمائية، وإن امتلك صاحبها نصيبا من الذكاء الماكر أو بالأصح التذاكي، إلا أنه لا بد أن ينقصه الكيس والنباهة والمروءة التي تمكنه من احترام ذكاء المخاطب، لأنه لا يمكن أن يصنَّف ذكيا من لم يستطع تقدير ذكاء الناس، ذلك أن الذكاء ليس هو التذاكي، وإن تقاطع المفهومان، لأن الذكاء يتصل بالواقعية ويوصل صاحبه للحقيقة، أما التذاكي فغاية ما يقوم به هو فتح الأبواب لإنقاذ صاحبه من "المحاصرة" حتى لا يبدو "مهزوما"،، وإن كان كذلك..

في الشكل، ومن مثالب الكلام والعادات السيئة في النقاش، تقيد البعض بالإشارة إلى كلامه بأنه "رأي شخصي"!!!.. والبديهي أنه عندما يرِد الكلام مجردا من الإحالة أو الإسناد أو النسب أو الإضافة للغير، فإنه يكون شخصيا، يعبر بالضرورة والحصر على رأي قائله أو كاتبه، ومنسوبا إليه..

إنه لا يستساغ ولا يستقيم أن يذيل المتكلم كل كلامه بنسبته لنفسه أو حصره عليها، في حين يكون ذاك مطلوبا، بل ضروريا في حال العكس(إذا كان الكلام المجرد من النسبة لا يعبر عن رأي قائله)، لأن الكلام إذا كان للغير وباسمه، ولم ينسبه المتحدث لأهله، يكون انتحالا أو سرقة..

في المقابل، تناقش شخصا في مسألة فكرية أو سياسية أو لربما فقهية، وعندما تدلي برأيك وتقدم حججك، وعند أدنى درجات الشعور بـ"العجز"، يلجأ إلى ثوابت من اللازمات القارة مفادها: "ذاك رأيك"،، وكأن المتكلم قال أنه رأي المخاطب أو الغائب.. أو وكأنه فصَل أنه ليس رأيا، بل حكما منزها عن النقض...

إن ما يقدم المتكلم هو طبعا رأيه.. هو مطالب بإثباته، والمخاطب مطالب بنفيه، ووحده نقض الحجج الكفيل بإبطال الادعاء..

أما على مستوى النقاش الشفهي، وإضافة إلى ما سبق، لعل أول آفة هي أن أكثرية المواضيع المفتوحة تبقى عالقة دون مجرد الإحساس بغلق ولو واحد منها، وذلك بسبب سوء تدبير النقاش المتمثل أساسا في انعدام الانضباط المنهجي والموضوعياتي،، ثم للحضور القوي لعوائق التواصل اللفظي المباشر بين الحدة في الكلام، والاستئثار به.. كما أن "فيروس" المقاطعة غالبا ما يقضم ما نجا من "طاعون" النسيان،، لأن حبل الأفكار أصلا واهن، والذاكرة لم تعد تذكر شيئا،، ثم تأتي المقاطعة لتضاعف المصائب.. أضف إلى ذلك حدة الانفعالات والردود المباشرة التي غالبا ما تكون ندية ومشحونة بالعنف اللفظي وتقاسيم الوجه غير الودية، والتيه في متاهات كثرة التفريعات

ولتجاوز بعض من هذه العوائق، وخاصة الشكلية، تعتبر الكتابة وسيلة جيدة للتواصل حتى بين المتجاورين، لأنها تمكن من تجاوز ما سبق ذكره، وتعصم المتحاورين من التدخل العمودي العشوائي وما ينتج عنه من مقاطعات وقطع لحبال الأفكار.. كما يساعد النقاش بالمكتوب على ضمور الانفعالات أو التخفيف من حدتها على الأقل، وكذا تلافي الردود النارية الآنية، وسنوح التركيز على مضمون الموضوع دون تيه أو زيغ أو نسيان... وأخيرا، وربما ليس آخرا، من أجل التوثيق وإمكانية الرجوع والاستعمال، وأيضا قصد الحجة والمرجع عند الاقتضاء..

 

كما يمكن، في وقتنا الراهن، استعمال وسائط التواصل الافتراضي التي يمكن أن تشكل امتدادا للقاءات المباشرة المنفضة، وتحقق في نفس الوقت ميزات التواصل المكتوب المذكورة..

مجموع المشاهدات: 5519 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة