الرئيسية | أقلام حرة | اصلاح التعليم واشكالية التعدد اللغوي‏

اصلاح التعليم واشكالية التعدد اللغوي‏

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
اصلاح التعليم واشكالية التعدد اللغوي‏
 

 

لا يمكن لأي متتبع لتطور المسألة التعليمية إلا أن يجد نفسه، في هذه اللحظة التاريخية المفصلية، في صلب النقاش الدائر حول إصلاح التعليم ببلادنا، والذي هو نقاش سياسي بامتياز على اعتبار أن المسألة التعليمية ظلت تشكل منذ البدايات الأولى للاستقلال – إن لم نقل قبل الاستقلال- أحد الرهانات الأساسية والمحددة. بل الحاسمة في منحى تطور الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي ببلادنا، في محاولة من الأطراف التي قد نسميها تجاوزا الوطنية – لم يعد للوطنية اليوم ذاك المدلول الإيديولوجي والمجتمعي اللذان اكتسبتهما سابقا، بل أضحت تحيل على نوع من البحث عن مشروعية تاريخية مهزوزة - والتي كانت تعبر آنذاك عن طموح وآمال برجوازية تقليدية ناهضة لرسم، أو قل لفرض، أنموذج واحد ووحيد كمين بتلبية طموحاتها الاجتماعية وإرساء وتأبيد سيطرته الاقتصادية والسياسية. لذا كانت – ولا تزال- المسألة التعليمية، أو للدقة إصلاح التعليم، ذاك المجال الحيوي والحاسم الذي جرت فيه – وتجري- كل الصراعات السياسية والثقافية والهوياتية كتعبير على تخالف المشاريع المجتمعية ذات الأبعاد التربوية لمختلف الأطراف المتصارعة سياسيا واقتصاديا، أي طبقيا. هذا الصراع الذي ظل محتدما لا يجري بمعزل عن مدى ارتباط كل طرف بالدولة، بما يعني ذلك من مستوى تموقعه السياسي والمؤسساتي والإيديولوجي في أجهزة الدولة. فبدون الدخول في تفاصيل الصراعات التي جرت بخصوص ما ينبغي أن تكون عليه المدرسة أو الجامعة المغربيتين، والتي وصلت حد الصراعات الدموية بالجامعة، فإن ما يمكن إيجازه هو أن مثل هذه الصراعات تبدو أكثر وضوحا، أي أنها تتكثف، كلما كانت المسألة التعليمية بصدد إصلاحات، سواء كانت ذات طابع هيكلي استراتيجي (مبدأ التعريب نموذجا) أو نابعة عن ضرورات إجرائية مناسباتية مرتبطة بأجندات رأسمالية فوق وطنية (المخطط الاستعجالي حاليا). لقد دأب ممثلو الفئات البرجوازية التقليدية الحاملة لايديولوجيا سلفية وقومية على ربط إصلاح التعليم بالمطالب السياسية والاختيارات الايديولوجية الأساسية التي رفعتها «الحركة الوطنية»، إن قبل الاستقلال أم بعده. غير أن هذا الربط ليس سوى محاولة لموضعة أي نقاش حول المسألة التعليمية في إطار منظور «الحركة الوطنية» الذي هو منظور عروبي سلفي شرقاني، ليس يعبر في شيء عن الواقع المغربي في تميزه العيني وفي تعدده اللغوي والثقافي والحضاري. إن هذا المنظور ما فتئ يعمل ضد تحقيق أي تقدم نوعي في طريق الاعتراف بالتعدد، كواقع اجتماعي وكوجود ثقافي وإنسي وتاريخي للشعب المغربي، وهو ما يحول ضد أية محاولة لإرساء تعليم تنويري عقلاني حداثي يطمح لمعانقة المشكلات الكبرى الأساسية التي تفاقمت مع القفزات العالمية الكبرى التي جرت - وتجري - منذ نهاية القرن الماضي، والتي لها انعكاساتها العميقة على المستوى الوطني، مما يستدعي تطارح هذه المشكلات بنوع من الجرأة والرزانة، على اعتبار أن الوضع القائم لا يقبل المزيد من التأجيل أو المزيد من الشعارات الفضفاضة والممارسات الديماغوجية. أما هذه الانعكاسات فيمكن تكثيفها ببساطة في تنامي الحركات الاجتماعية والثقافية المطالبة بإقرار الديمقراطية والاعتراف بالتعدد الضامن للوحدة، وهذا كله لن يستقيم دون الإقلاع عن تلك الباراديغمات الوثوقية والمضي في طريق إعمال النسبية والعقلانية والتفكير الحداثي كمقومات لأي مشروع ديمقراطي حداثي يطمح الى إقرار حقوق الانسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما هي متعارف عليها كونيا، وفي علاقتها الجدلية بالمسألة التربوية التي فيها تتكثف كل هذه الرهانات. إن هذه القفزات الكونية الكبرى، بما هي ناتجة عن تحولات فجائية من طور الى آخر في نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، إن كان لها من حسنات، فلأنها كشفت بما لا يدع مجالا للشك زيف كل الخطابات الطوباوية والشعبوية المتأرجحة تارة بين القومية العروبية المنهارة وتارة أخرى بين السلفية التراثية والأصولية الراديكالية العقيمة.... هذا الكشف التاريخي انعكس أيضا على المسألة التعليمية، فبدت بما هي، وبما كانت عليه، سياسات تعليمية وبرامج ومضامين ومناهج تربوية خارج السياق التاريخي وغير مواكبة للتحولات المجتمعية، ليس فقط على مستوى بلادنا وإنما على مستوى سائر الأقطار المشرقية التي هيمنت فيها الايديولوجية القومية والسلفية. 

أمام هذا الوضع، كان لزاما على القوى الحداثية المؤمنة بالتعدد – وعلى رأسها الحركة الأمازيغية وخاصة تيارها الديمقراطي- كواقع اجتماعي وتاريخي عيني، (كان لزاما) عليها أن تتلمس طريقها في سبيل فرض إعادة النظر في كل الوثوقيات الشرقانية المعيقة للتطور والتي أوصلت المدرسة المغربية العمومية الى أزمتها الراهنة. لقد ظلت مجموعة من الأطراف الديمقراطية واليسارية – للأسف الشديد – عاجزة عن طرح تصور تقدمي واضح واستشرافي للمسألة التعليمية، في علاقتها العضوية بالمسألة اللغوية، بما يستجيب للحاجيات المجتمعية والضرورات التاريخية لتطور المجتمع المغربي؛ في ظل هذا العجز الذي هو ناتج عن عدم وضوح الرؤية الايديولوجية لهذه الأطراف، صار لزاما إعادة طرح النقاش من جديد في المسألة التعليمية/اللغوية والخوض السياسي فيها في اللحظة الراهنة التي هي لحظة تحول/انتقال راديكالي ما فتئ يمس جميع أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية المرتبطة أشد الارتباط بالمسألة التعليمية، وهذا ما نقدره للأستاذ محمد عابد الجابري لما أعاد طرح إصلاح التعليم الى النقاش العمومي رغم اختلافنا معه في العديد من الأفكار المطروحة. وعليه فإن أي نقاش لا يأخذ بعين الاعتبار هذه التحولات الكونية والوطنية، لن يعدو أن يكون مجرد شعار طوباوي نابع إما عن حنين عروبي قومي أو عن نكوص تراثي سلفي؛ بمعنى ما فان أي نقاش من هذا القبيل ليس سوى نقاشا علمويا وإيديولوجيا لا صلة له بالواقع الاجتماعي والتاريخي وبالوجود الثقافي المتعدد للمجتمع المغربي. قرأنا للأستاذ محمد عابد الجابري، وباهتمام كبير، مقالا من حلقتين (جريدة المساء، عددي 1054 و1055، يومي 10 و11 فبراير 2010). كان أملنا أن نعثر في هذا المقال على ما قد يشكل جديدا في مشروع الجابري، وتحديدا في بعده التعليمي... حقيقة لم نجد في أفكار الجابري أي جديد، إلا إذا كان الجديد هذا هو إعادة إثارة المبادئ الأربعة للتعليم للمناقشة من جديد، وحسنا فعل بهذه الإثارة. هذه المبادئ التي هي: التعميم، التوحيد، التعريب ومغربة الأطر، يقول عنها الجابري أنها ظلت تشكل «الثابت» الرئيسي في السياسة التعليمية في المغرب، منذ الاستقلال، وأن بعض الجهات تريد تجاوزه، أي تجاوز هذا الثابت بما هو المبادئ الأربعة، إن لم نقل «التخلص» منه، على حد تعبير الأستاذ الجابري. إلا أن الأستاذ الجابري لم يشأ أن يكشف عن هذه الجهات ولا عن محاولاتها للتخلص من هذا «الثابت»، فكيف يستقيم النقاش إذن والجهات هذه غير معروفة؟. ورغم اتفاقنا النسبي مع الأستاذ في قوله أن هذا «الثابت» ظل ثابتا فقط على مستوى الشعارات، إلا أننا لم نجد عند الجابري ما نكون فيه مختلفين - أو متفقين - في كون هذا الثابت إنما ظل ثابتا في الشعارات فقط... ذلك أن الجابري لم يدل بدلوه في الأمر بكل وضوح... كان ينبغي أن يسمي الأشياء بمسمياتها حتى يكشف عن كل الحيثيات التي يعتقد أنها ساهمت في إبقاء ذلك الثابت «ثابتا» على مستوى الشعارات فقط، وحتى يسهم في فتح نقاش سياسي جدي، غير ديماغوجي، ما أحوج منظومتنا التعليمية إليه اليوم. غير أن الجابري سيكون أكثر دقة في اختياره لموضوع النقاش لما اكتفى في مناقشة المسألة التعليمية بالسياسة التعليمية فقط. ونحن إذ نحترم هذا الاختيار فإننا سنقتصر في قراءتنا لأفكار الجابري عند هذا الحد، أي عند حدود وتخوم السياسة التعليمية. يشير الأستاذ الجابري إلى مسألة هامة وهي أن فقط مبدأ مغربة الأطر هو وحده المبدأ الذي كتب له أن يتحقق، إضافة الى مبدأ التوحيد الذي تحقق بصورة إجمالية، وإذن ما تبقى للنقاش هو التعريب والتعميم، حسب الأستاذ الجابري دائما. نستشف من هذا القول أن مبدأ المغربة هو وحده الذي تحقق، في حين أن التوحيد لم يتحقق كليا، بل إجماليا!... هناك سؤالان يطرحان في هذا الصدد، أولهما يهم مغربة الأطر وهو: إذا كان مبدأ مغربة الأطر قد تحقق – وهو فعلا تحقق-، فهل تحقق هذا المبدأ بشكل ديمقراطي وفي احترام تام للكفاءات الوطنية؟ أم أن هذا التحقق شابته ممارسات انتقائية  تقليدانية ظلت تعتمد منطق المحسوبية والقرابة العائلية والقبائلية في تقلد المناصب خاصة العليا منها؟!.... لم يقل الجابري أي شيء في هذا الموضوع الذي هو حساس للغاية، بل فضل طمس هذه المسألة بمزيد من التعويم اللغوي. ذلك أن تدبير المنظومة التربوية، عبر السياسة التعليمية بتعبير الجابري، بعد مرور زهاء خمس وخمسين عاما بعد الاستقلال لا يزال يستند الى العشوائية والارتجالية في ظل وجود فراغات قانونية وتنظيمية لا يمكن في ظلها إنصاف الأطر والكفاءات الوطنية العاملة بالمنظومة، أيا يكون توجهها السياسي والفكري وأيا تكون أصولها الاجتماعية والثقافية.... إن مثل هذا الخلل التاريخي القائم على التمييز بين المواطنين في تقلد المسؤوليات على أساس من الكفاءة والمهنية والاحترافية والنظرة الاستشرافية المستقبلية هو ما يؤدي اليوم الى تنامي الاحتجاجات الفئوية التي تلتقي كلها في المطالبة بإنصافها على قاعدة احترام الشهادات التي تحملها، وهذا معناه أن هناك اليوم إجماعا وطنيا داخل الحقل التعليمي والتربوي، على ضرورة توحيد القوانين الأساسية المنظمة للممارسة التربوية والتعليمية على قاعدة الشهادات المحصل عليها. ما لم تعالج هذه المسألة الحساسة، بما يؤدي الى إنصاف الكفاءات الوطنية وفي احترام للقانون، فان أي إصلاح لن يكتب له التحقق، ذلك أن محرك أي إصلاح على أرض الواقع هي هذه الكفاءات التي، وهي تستشعر الحيف والإقصاء الممارس عليها، لن تنخرط في المساهمة في أي إصلاح، وهذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها ومعالجتها قبل فوات الأوان. أما السؤال الثاني ويخص التوحيد فهو: هل لا يزال الجابري يطمح الى إرساء تعليم موحد ونمطي بعد كل هذه المتغيرات الوطنية والكونية التي لها أثرها العميق في الواقع الاجتماعي والثقافي والتربوي المغربي. المغرب اليوم  يوجد في طور الانتقال الى اللاتمركز واللامركزية في أفق بناء جهوية موسعة ولم لا جهوية سياسية... هذا ما تخبرنا به الخطابات الرسمية التي تؤطر هذه المرحلة الانتقالية، ولننتظر حتى نرى ونتأكد من مدى تنزيلاتها وأجرءتها على أرض الواقع؛ لكن بالمقابل، ألا يطرح هذا الوضع الانتقالي أسئلة تربوية في مناهج وفي مضمون العملية التعليمية برمتها؟، فماذا تعني الجهوية اليوم على مستوى آفاق وصيرورة المسألة التربوية ببلادنا؟... إن من بين ما قد تعنيه الجهوية الموسعة هو الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الحضارية والإنسية والثقافية المحلية وإدراجها في البرامج التعليمية الجهوية في أفق إغناء ذلك المشترك الوطني الذي ينبغي تطويره بما يمكنه من استيعاب كل هذا الغنى التعددي الذي تزخر به بلادنا.وهذه العملية المعقدة طبعا لا مفر منها، بل هي وحدها القادرة على تقوية ذلك المشترك الوطني بما هو برنامج تربوي وطني يفتح أمام الناشئة سبل التعرف على واقعها الاجتماعي والثقافي والتاريخي الفعلي الذي ظل منذ الاستقلال رهين رؤية إيديولوجية اختزالية تنميطية للحركة الوطنية التي لم تعمل سوى على استنساخ وإسقاط نماذج مشرقية جاهزة ذات طابع شمولي ووثوقي ومتحجر، وأكثر من ذلك ذات نظرة تحقيرية ومتعالية عن كل ما هو مغربي أصيل. هناك أمثلة عديدة جرت في هذا الصدد، فأن تكون «مثقفا أو كاتبا أو مفكرا أو ما شئت» في المغرب فعليك، في الزمن الماضي الذي هو الزمن العروبي، أن تنال شهادة الاستحقاق عن «فقهاء وشعراء ومثقفي» المشرق، بل يكفي أحيانا، حتى تصبح مشهورا، أن تأخذ لك صورا خالدة مع بعض هؤلاء المشرقيين الذين يتولون السهر على إعطاء الاستحقاق الثقافي ل»مثقفي وشعراء وكتاب» المغرب. كل هذه الممارسة الثقافية البالية بما آلت إليه اليوم من تأزم وتفسخ (وضع اتحاد كتاب المغرب، ما وقع في المعرض الدولي للكتاب) ما كان لها أن تنكشف، وطنيا، لولا تلك التحولات الكونية وما صاحبها من مجهود فكري جبار بذلته النخبة المثقفة للحركة الأمازيغية الديمقراطية التي ما أن استوعبت متطلبات اللحظة الكونية والوطنية، حتى صارت ترسي أسس ثقافة وطنية جديدة قوامها التعدد والتنوع والاختلاف والقطع مع كل ما هو نمطي وثوقي. وقد عزز من مسعى هذه الحركة بروز أعمال مفكرين مغاربة قلائل كان لهم فضل السبق الى الانتباه الى التعدد، كسمة أساسية للواقع الثقافي المغربي، وهنا نشير الى أعمال المرحوم الأستاذ عبد الكبير الخطيبي التي شكلت مدخلا ومرتكزا للكشف عن قصور وتهالك تلك الثقافة التنميطية المشرقية. 

عودة إلى مناقشة أفكار الجابري في ما تحقق من المبادئ الأربعة للتعليم، يقول ماذا تبقى للنقاش إذن؟... هما مبادئ التعريب والتعميم و»المجانية»، باعتبار أن مبدأ مجانية التعليم كان جزءا من مبدأ التعليم، على حد تعبير الجابري الذي يستطرد في الحلقة الأولى من مقاله: «أعتقد أن هذا هو الموضوع المركزي –يقصد مجانية التعليم- الذي تستهدفه الأنظار والتصريحات، ولكن دون أن يطرح طرحا صريحا وبروح موضوعية؛ والواقع أن مثل هذا الطرح، الصريح والموضوعي، يجب أن يشمل أيضا التعميم والتعريب، فالمبادئ الثلاثة مرتبطة لا تقبل العزل ولا الفصل». 

وبالنظر لما يستبطنه كلام الجابري هنا من إقصاء لكل مظاهر التعدد المغربي، على الأقل مثل ما يكشف عليه الواقع اليوم، لا كما كان منطمسا منذ الاستقلال، فإننا ارتأينا أن نورد فقرات أخرى من كلام الجابري حتى نتمكن من مناقشة أفكاره بشكل لا تعسف فيه عليه. يقول الجابري في هذا الصدد: «ما الذي نعنيه هنا ب»الطرح الصريح الموضوعي»؟ كانت المبادئ الأربعة، منذ أن تبلورت في أذهان المهتمين بقضية التعليم في المغرب، أي منذ عهد الحماية الفرنسية تقع كما قلنا، في قلب الفكر الوطني المغربي، وبالتالي كان الدفاع عنها يتم بخطاب «الهوية» الذي لا يقبل المناقشة: الهوية كما صنعها الماضي وكما يجب أن تكون في المستقبل: استمرارا متناميا ومتحسنا لما كان ولما هو الجوهر لكينونتنا». لندقق النظر في هذه المقولة الغريبة: «الهوية التي لا تقبل المناقشة»، أليس في هذا تعصب صريح حتى لا نقول شوفينية؟... ما معنى «الهوية كما صنعها الماضي وكما يجب أن تكون في المستقبل»؟!... هذا كلام لا معنى له إلا إذا كان هذا المعنى يحيل الى نوع من التعصب والتحجر النابعين عن نظرة وثوقية متعالية عن الواقع المغربي المعقد، في تطوره الدائم والذي هو بالمناسبة ليس استمرارا متناميا ومتحسنا كما يقول الجابري، وإنما هو دائم التقلب والمفاجئة في التواءاته وقفزاته التاريخية. إن أخطر ما في هذا الكلام هو عبارة «كما يجب أن تكون في المستقبل»؛ فمن دون أن يبين الجابري كيف كانت هذه الهوية في الماضي ولا كيف ستكون في المستقبل، تراه يحاول تكريس وهم إيديولوجي حتى من دون الخوض في هذا الوهم... غير أن هذا الوهم الذي يضمره الجابري هنا ليس سوى موقفه العروبي المعروف من قضايا اللغة والثقافة والهوية المغربية. فالخوف من الحديث عن الهوية، بما كانته في الماضي وبما هي عليه اليوم وبما ينبغي أن تكونه في المستقبل، هو خوف من المستقبل في حد ذاته. ذلك أن المستقبل لم يعد فيه مكان للشعارات والإيديولوجيات القومية العنصرية التي تنفي الآخر، بما هو آخر متخالف ومتغاير مع «الذات القومية والسلفية الطاهرة والنقية». إن عالم اليوم تحكمه ثنائية جديدة وهي الكوني مقابل المحلي، لا مكان إذن في ظل هذه الثنائية للقومي؛ فحتى الوطني بالكاد يحتفظ بموقعه المتواضع في ظل هذه الثنائية، وذلك متى تعامل المجتمع والدولة مع قضايا التعدد، بالعقل والديمقراطية وليس بالأحلام القومية. ألم يرَ الجابري ما يقع في المشرق من تفتت وطني مصحوبا بتنامي نزعات انفصالية كنتيجة حتمية وتاريخية لذلك التدبير القومي القائم على التنميط ووصف كل المخالفين للقومي ب»العملاء»؟... ألم ير كيف أن دولا ديمقراطية، (سويسرا نموذجا) استطاعت أن تحافظ على وحدتها الوطنية مع إقرارها بالتعدد اللغوي والاثني والهوياتي والديني؟. ينتقل الجابري بعد ذلك الى القول أنه بعد استبدال مفهوم الهوية بمفهوم التنمية، لم يعد للهوية ذلك التأثير الذي كان لها «بالمعنى الوطني» مثلما كان الحال عليه منذ عقدين، وأردف أن الموضوعية لم تعد في «الجوهر» و»المضمون»، بل في «الوظيفة». وكأننا بالأستاذ الجابري هنا يحاول طمس حقيقة بادية للعيان، وهي أن الهوية لم تكن تناقش في الماضي بالحدة التي هي عليها اليوم، حتى أن الهوية صارت اليوم مرادفة لكل ما هو تعددي واختلافي، فكيف استعصى على الجابري رصد هذا الكم الهائل من النقاش الذي يجري اليوم حول مفهوم الهوية؟! يطرح هذا التعاطي الديماغوجي على كل من يريد الخوض في المسألة التعليمية أن يصدر عن قراءة موضوعية للواقع لا عن مرجعيات إيديولوجية متهالكة ومتهافتة. بعد هذا التحول في تأثير «الهوية» يخلص الجابري الى القول أن طرح موضوع التعليم في بلادنا اليوم، وعلى مستوى المبادئ الأربعة، ينبغي أن يكون طرحا وظيفيا، أي الاهتمام بمسألة التنمية وعملية توصيل المعرفة. لا بد لنا هنا أن نشير الى مسألتين بالغتي الأهمية: أولهما أن هذا الطرح الوظيفي هو الوجه الآخر لعدم طرح المسألة التعليمية طرحا سياسيا بما لا يفضي الى تحديد المسؤوليات التاريخية في الأطراف التي رسمت معالم السياسة التعليمية ببلادنا، على الأقل منذ الاستقلال، خاصة وأن الجابري أخذ على عاتقه مناقشة السياسة التعليمية. كيف يمكن إذن مناقشة السياسة التعليمية من خلال الطرح الوظيفي الذي هو في الحقيقة إخفاء وإضمار لما هو سياسي في المسألة التعليمية؟!. ثاني هذه المسائل تهم المنهجية التي سنتناول من خلالها هذا المأزق النظري عند الجابري في أفق تجاوزه. في هذا المستوى الوظيفي يناقش الجابري شعار «إدماج التعليم في المحيط» الاقتصادي والاجتماعي الذي يرفع من قبل البعض عن صدق على حد تعبير الجابري، ويقول أن التعليم هو دوما مندمج في المحيط ولا يقع قط خارجه، بل هو جزء منه وفي نفس الوقت يعمل على تلبية حاجاته، أي أن التعليم كان في الماضي يمد المحيط بما يحتاجه من مؤذنين وأئمة وخطباء الجمعة وعدول وقضاة شرعيين قبل أن ينتقل التعليم في مرحلة لاحقة الى إمداد محيطه، أي الدولة، بما يلزم من كفاءات من شرطة وضباط وموظفين للحلول محل الفرنسيين. ويضيف الجابري في مقاله «واليوم يقال أن التعليم غير مندمج في محيطه، فهل هذا صحيح؟... ما الذي جعل التعليم بالأمس في قلب محيطه يخدمه ويلبي حاجاته؟ وما الذي يمنعه من أن يكون كذلك اليوم؟»... يتبدى لنا، وبدون الدخول في التفاصيل، أن الجابري يعتبر المشكلة في «المحيط» وليس في «التعليم»، ذلك أنه في الماضي كان المحيط يعرف ما هو في حاجة إليه، أما اليوم فان المحيط لا يعرف حاجاته وهو نفسه غير مندمج، ذلك أن حاجاته من أطر الوظيفة الدينية والإدارية هي من الضآلة بحيث لم يعد معها معنى لمقولة «إدماج التعليم في محيطه»؛ غير أن المحيط المهيمن اليوم في المغرب هو «البطالة»، كما يقول الجابري. نستشف من هذا العرض أن المحيط في الماضي كان الدولة وما تحتاجه من أطر دينية وإدارية وأمنية، واليوم أضحى هذا المحيط هو العطالة، فأين الدولة من هذا المحيط الذي انقلب عطالة اليوم؟! هذا هو مأزق الجابري، فهو حين يخفي دور الدولة اليوم كمحيط فإنما يخفي السياسة التعليمية ولو أنه أخذ على عاتقه منذ البداية أن يناقش هذه السياسة بالذات؛ فمن الناحية المنهجية، كان ينبغي طرح مفهوم محدد للمحيط حتى إذا خذنا في نقاش هذا المحيط كنا في منأى عن أي خلط منهجي أو مفهومي. إن مثل هذا الخلط ليس له أية علاقة بقدرات الأستاذ الجابري المعرفية والمنهجية، بل انه يصدر عن خلفية ايديولوجية وعن رغبة جامحة للوصول الى ما يعتبره الجابري أفكارا وثوقية هي من صميم مرجعيته القومية-البرجوازية الصغيرة. يصل الجابري الى خلاصة أساسية تتمثل في أن المحيط هو المتخلف اليوم – وليس التعليم - بما أنه عاجز عن توفير الشغل للخريجين من داخل المغرب ومن خارجه. هنا أيضا يتكشف مأزق الجابري، ذلك أنه إذا كان التعليم غير متخلف، فما الداعي أصلا الى طرح أفكار حول إصلاح التعليم بالمغرب الراهن... أما كان ينبغي، والحال هذه، أن يطرح أفكارا أخرى في إصلاح المحيط المتخلف وليس في التعليم الذي هو غير متخلف بحسب الجابري... ألا يعني طرح أفكار حول المحيط المتخلف خوضا في السياسة التي منها يتهرب الجابري رغم ادعاءاته أنه بصدد مناقشة السياسة التعليمية؟!. كيف يمكننا أن نناقش الجابري في كون هذا المحيط محيطا متخلفا، وهو لم يقم بتحديد هذا المحيط!؟.. لا ندري إن كان هذا المحيط هو الدولة أم المجتمع أم الأحزاب السياسية أم النقابات أم المجتمع المدني أم العائلة أم البرجوازية التقليدية العقارية أم بقايا الإقطاع الكمبرادوري، أم هو سياسة الريع الجديد!... فسواء اختلفنا أم اتفقنا مع رؤية الجابري في تحديد هذا المحيط المتخلف، فان ما نحن واثقون منه هو أن التعليم هو تعليم متخلف، وليس كما يدعي الجابري من كون التعليم ليس متخلفا؛ فهو ربما أراد بقوله هذا الدفاع عن أولئك الذين رسموا السياسة التعليمية وأوصلوا المنظومة التعليمية الى أزمتها الراهنة. لربما استبطن أيضا كلام الجابري، وهو يدعي أن التعليم غير متخلف، رغبة جامحة غير معلنة في عدم المساس ب»ثوابت» التعليم في محاولة يائسة منه لعدم المساس بمفهوم «الهوية» كما يعتقده الجابري.

يقول الجابري: «تلك هي النتيجة الأولى التي يفرضها  الطرح الوظيفي – وليس الإيديولوجي ولا الوطني – لمشكل التعليم في المغرب، كما هو اليوم: المحيط غير قادر على أن يندمج التعليم فيه، أو لنقل إن التعليم متخلف لأنه مندمج في محيط متخلف». فما معنى هذا الكلام إذن؟ معناه أن الجابري لا يقبل – اعتمادا على الطرح الوظيفي- تخلف التعليم اليوم إلا لأنه مندمج في محيط متخلف؛ ولئن ظل مفهوم المحيط مفهوما فضفاضا هنا ومن دون أي تحديد منهجي، فكيف لنا أن نفهم شيئا من هذا الكلام؟!... غير أن لهذه المقولة أهميتها القصوى في الكشف عن إيديولوجية الجابري، ذلك أن مثل هذا الكلام يحيل الى فكرة مفادها أنه في الماضي، حينما كان التعليم مندمجا في المحيط ويجيب على حاجاته، آنذاك كان هذا المحيط غير متخلف، أما وقد أضحى اليوم هذا المحيط «المبهم» متخلفا فقد جر معه التعليم الى مستنقع التخلف.

خلاصة هذا القول هي أفكار يضمرها الجابري مفادها أنه لما كانت الهوية «بالمعنى الوطني» تمارس تأثيرها كان هناك تعليم مندمج في محيط غير متخلف، لكن مع ظهور ثقافة التعدد وبروز تلك الأسئلة الشائكة للهوية بمعناها التعددي والاختلافي، صار هذا المحيط متخلفا لا يعرف حاجاته من التعليم الذي تخلف لأنه اندمج في المحيط الراهن «المتخلف» والذي بات يطرح أسئلة تقلق مضجع حاملي الإيديولوجيا العروبية القومية والسلفية التراثية. بمعنى آخر، يمكننا طرح السؤال نفسه، لكن بصيغة أخرى: هل انتقلنا فعلا من مرحلة كان فيها هذا «المحيط» مزدهرا ومتقدما (في الماضي كما يدعي الجابري) الى مرحلة جديدة (اليوم) بات فيها «المحيط» متخلفا!؟... تاريخ المغرب وتطور الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي فيه يبين أنه لم نصل بعد الى وضع حد للتخلف على جميع الأصعدة بالشكل الذي يمكن كل القوى الديمقراطية الفاعلة في المجتمع من إقرار تعاقد دستوري ومؤسساتي كمين بمعالجة كل الاختلالات التي بدت واضحة اليوم في المغرب والتي كانت في معظمها من نتائج إقرار «الحركة الوطنية» لسياسة تعليمية مبنية على تحريف الواقع الاجتماعي والوجود التاريخي والثقافي والإنسي للمجتمع المغربي. في ضوء ما تقدم يطرح الجابري سؤالا آخر: إذا كان «المحيط» في مغرب اليوم غير قادر على أن يندمج التعليم فيه، فهل يمكن للتعليم أن يساهم في تطوير هذا المحيط في اتجاه رفع هذا العجز عنه؟ انه سؤال يطرح – كما يؤكد الجابري- مسألة التخطيط، مسألة السياسة التعليمية و»مبادئ»: التعميم والمجانية والتعريب، ثم يضيف قائلا: السؤال الوظيفي الذي يجب طرحه الآن بصدد هذه المبادئ هو التالي: هل بقي في هذه «المبادئ ما يصلح توظيفه في عملية تطوير «المحيط» في الاتجاه الذي يرفع عنه العجز عن توفير مناصب الشغل للعاطلين كافة، وفي مقدمتهم المتخرجون من التعليم؟... يبدو من هذا الكلام أن الجابري كلما ادعى أنه بصدد مناقشة السياسة التعليمية مضى يستعين بالطرح الوظيفي لإضمار وطمس المضمون السياسي الطبقي والانتقائي – غير التعددي- لهذه السياسة؛ إنها إذن محاولة منه لإدخال نقاش المسألة التعليمية في نفق سجال عقيم، أو لنقل في سفسطة مثالية. في بداية الحلقة الثانية من مقاله، يقول الجابري إن «هناك حقيقتين: لا أظن أن هناك من يجادل فيهما: أولاهما أن المحيط في المغرب محيط أمي (غريب هذا المنطق، فبعد أن كان المحيط غير متخلف في الماضي ها هو بجرة قلم يصير أميا!)، وثانيتهما أن المحيط الأمي ليس مجالا لمناصب الشغل، بل هو مجال لإنتاج وإعادة إنتاج البطالة». في هذا السياق، وبشكل مختصر، فان الجابري يدعو الى تنمية شاملة لرفع الأمية عن المحيط من خلال تعميم التعليم والتقليص من نسبة الأمية حتى لا تبقى الأمية خاصية في المحيط بالمغرب. كما يدعو الى تعميم التعليم في القرى والبوادي لتطوير القطاع الفلاحي، مؤكدا على ضرورة التطبيق الفعلي والصارم لظهير إجبارية التعليم الصادر منذ أزيد من ثلاثين سنة، على اعتبار أن ذلك المحيط الأمي في المغرب هو من الفقراء في البوادي والمدن، وهو ما يجعل من أي تفكير في التخفيف في ميزانية الدولة من وقع مجانية التعليم عليها هو تفكير غير واقعي. ورغم أننا نتفق مع الأستاذ الجابري في دفاعه عن مجانية التعليم اتفاقا مطلقا وبدون شروط، حتى أننا نثمن قوله هذا  ونشد عليه، إلا أننا لم نفهم ما المقصود بكلامه من كون المحيط الأمي ليس مجالا لمناصب الشغل. هل المقصود هو تخلف الاقتصاد المغربي أم تبعية هذا الاقتصاد لأجندات الشركات الرأسمالية العالمية أم أن المقصود هو عجز الدولة، أم عجز المجتمع عن إنتاج فرص الشغل!!.... هذا نقاش سياسي عميق لا بد لمن أراد الخوض فيه أن يطرح وجهة نظره بشكل صريح. نحن نعتقد اعتقادا جازما أن المواقف إنما تحددها المواقع الاجتماعية، لذا ليس المشكل في الموقف في حد ذاته، وإنما الإشكالية في طرح الموقف طرحا فضفاضا؛ أما وأن مفهوم المحيط ظل مفهوما فضفاضا فان مثل هذا الكلام لا معنى له، فهو إذن للاستهلاك فقط. لننتقل إذن مع الجابري الى مبدأ التعريب، حيث يقول: من زاوية توصيل المعرفة التي هي زاوية التحليل الوظيفي يجب أن ننظر اليوم الى مسألة التعريب بما تعنيه من جعل اللغة العربية وسيلة لتوصيل المعرفة ليس فقط على مستوى المدارس والمعاهد، بل أيضا، وهذا ما يجب إعطاؤه الأهمية القصوى، الى جماهير الشعب. وهل يمكن مخاطبة الشعب المغربي بلغة فرنسية أو غيرها؟ يتساءل الجابري في هذا الصدد. مجمل ما يقوله الجابري هنا أننا محتاجون الى أطر (أطباء مثلا) تخاطب المواطنين باللغة التي يفهمونها وينقلون إليهم المعرفة العلمية الضرورية. هنا يسوق الجابري أمثلة أساتذة وطلاب الطب الذين لا يجدون في مخزونهم اللغوي والثقافي ما يجعلهم يقدرون على توصيل أساسيات المعرفة الصحية الطبية الى مواطنيهم.

أما أبناء أولئك الذين يعيشون في المحيط فإنهم لا محالة حافظون على لغتهم الأم (الدارجة المغربية والامازيغية) مهما كانت الشهادات التي يحصلون عليها، وهو ما يجعلهم يتواصلون مع الشعب بكل أريحية. لا مكان للتعميم هنا، فالجابري إنما يتغيى بهذا التعميم طمس الحقيقة والقفز على معطيات واقعية بغية الوصول الى تأكيد رغبته العروبية في التنميط الثقافي واللغوي لصالح اللغة العربية. ففي الوقت الذي يرفع فيه ممثلو تلك البرجوازية العروبية – حزب الاستقلال – شعار تعريب التعليم، الذي ليس سوى شعار للدعاية الايديولوجية في سبيل تنميط ثقافي يحول دون إبراز التعدد الثقافي المغربي، في الوقت نفسه تعمل هذه البرجوازية العروبية على تعليم أولادها اللغة الفرنسية، حتى إذا صاروا أطرا وأسندت لهم مناصب – بكل أريحية- يجدون أنفسهم غير قادرين على التواصل مع ما وصفه الجابري ب»المحيط الأمي». بعبارة قصيرة يضيف الجابري: إذا أريد لشعار «دمج التعليم في المحيط» أن يكون له مدلول ملموس فيجب أن يفهم منه، أولا وقبل كل شيء، جعله باللغة التي يفهمها المحيط. نقول بكل بساطة المحيط الذي يتحدث عنه الجابري يفهم الأمازيغية والدارجة المغربية، أما اللغة العربية فهي على غرار اللغة الفرنسية لغة النخبة وليس لغة المحيط. يقول الجابري مسترسلا: نحن لا نستطيع أن نتخيل أن الشعب المغربي سيصبح في يوم من الأيام يتكلم الفرنسية أو الانجليزية!، ثم يردف للتعجيز لا للإقناع «نحن إذن أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن نعرب التعليم وإما أن نفرنس الشعب... والذين يفكرون في لغة التعليم بدون استحضار هذا الجانب الوظيفي يسقطون من حسابهم ما نسميه هنا بالشعب». غريب هذا الكلام، فهو ينم عن تناقض داخلي في بنيته ودلالته وإيحاءاته، فحسب هذا المنطق فان الذين يدافعون عن لغة أخرى غير اللغة العربية، الوظيفية، هم يسقطون من حسابهم «الشعب». أو لم يسقط الجابري كل المكونات الامازيغية للشعب المغربي لما عمل على عدم التطرق الى موقع الامازيغية في التعليم، بالرغم من إقرارها وصيرورتها واقعا لا بد من طرح الرأي فيه من كل باحث أكاديمي موضوعي حتى يساهم في كيفية تنزيل وأجرأة ما اتفقت عليه الأمة المغربية وصار مصدرا لافتخارها وعظمتها وتميزها. يذهب الجابري في طرحه الى عدم الاقتصار على تدريس المواد العلمية في الثانويات باللغة العربية، بل الى الذهاب الى حد إدخال اللغة العربية الى المعاهد والكليات العلمية، على الأقل فيما يخص المواد التكميلية في ظل غياب أساتذة معربين. كذلك فهو يدعو الى تعريب الحياة العامة داخل المعاهد وخارجها. ويختم الجابري مقاله ب: «المجانية وحدها تمنح الحد الأدنى من تكافؤ الفرص، والتعريب وحده يمكن من توصيل المعرفة الى الشعب، إذ ليس من الممكن إخراج شعب من لغته وإدخاله في لغة أخرى». ما نريد أن نختم به هو أن تعريب التعليم كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر منظومتنا التربوية، فمنذ أن دخل المغرب في أجرأة التعريب بالتعليم المدرسي بدت مظاهر الاختلال تبرز في المنظومة التربوية، فغدت معها الناشئة في منحدر عميق فقدت فيه كل قدراتها وكفاءاتها، لا هي تتقن العربية ولا هي قادرة على المضي في التعليم العالي بالفرنسية؛ أذكر هنا بصفتي كنت من الفوج الأول للمعربين أن العديد من خيرة التلاميذ في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تعثروا في مسارهم الجامعي وكان الإخفاق حليفهم من بعد ما كانوا ممتازين في الثانوي. واليوم تبدو الحالة كارثية، أكثر من أي وقت مضى، وكل ذلك راجع الى هذه الازدواجية في الشعارات المرفوعة إزاء منظومتنا التعليمية التي أراد لها العروبيون أن تكون كذلك، في وقت يتلقى فيه أبناؤهم اللغة الفرنسية منذ نعومة أظافرهم. إن اللغة العربية لا يمكنها اليوم أن تكون لغة العلوم والبحث العلمي، وهذا الموقف ليس نابعا من خلفية مرجعية، وإلا لقلنا إن الدارجة المغربية أو الأمازيغية أو الفرنسية هي التي يمكنها أن تكون لغة العلوم، بل إننا نصدر في حكمنا هذا من تجربتنا المتواضعة في البحث العلمي الذي صارت فيه الفرنسية أيضا قاصرة، ذلك أن مختلف المراجع والمنشورات هي بالانجليزية، وربما صارت في المدى المنظور صينية. إن دعوتنا الى حسن أجرأة وتنزيل تدريس اللغة الأمازيغية في إطار توافق وطني، واعتماد اللغة الامازيغية لغة وطنية بجانب اللغة العربية هي دعوة تصدر عن رؤية ديمقراطية وعن قناعة تعددية وحداثية، لما لذلك من أثر كبير في تعزيز انتماء واعتزاز المواطن المغربي ببلاده التي كانت وستظل موحدة في تعدديتها. فنحن حينما نتكلم عن التعريب لا نقصد به إزالة العربية التي هي مكون أساسي من مكونات الشخصية المغربية، ولكن ندعو صراحة الى عدم جعل التعريب وسيلة للإجهاز عن الواقع المغربي المتعدد واستبداله بثقافات مشرقية عروبية. إن أصحاب الطرح التنميطي العروبي يشكلون خطرا واستفزازا لمكونات هامة من الشعب المغربي، وهو ما يدفع بمكونات أمازيغية الى التطرف أحيانا في مواجهة هذا التنميط.. إن الاعتراف يكون بالشيء إذا ما استجد هذا الشيء في واقع معين، أما وأن الامازيغية هي أصل مكونات هامة من الشعب المغربي، وملك له بدون استثناء – كما أن اللغة العربية هي أيضا ملك له- فيجب التخلي عن ترديد مقولة الاعتراف باللغة الامازيغية والقول برفع الحيف الذي طالها، منذ الاستقلال، بسبب من السياسات العروبية القومية والسلفية وحتى اليسارية، والتي كانت تهدف الى تنميط الوعي الاجتماعي والثقافي للمغاربة في محاولة لطمس الصراع السياسي، بما هو صراع طبقي، وتحريفه عن غايته التي هي تحرير الانسان المغربي من كل الإيديولوجيات، المنهارة في مهدها، بما يعنى ذلك من رفع الاستلاب عنه في أفق ربطه ببيئته وواقعه اللذين يشكلان الإطار الاجتماعي والسياق التاريخي الملائمين لتحرره وتقدمه وتحقيقه للديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

 
مجموع المشاهدات: 2047 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (1 تعليق)

1 | متتبع
سرقة ادبية
هذا المقال كله مسروق نسبه المدعو مراد الصغراوي لنفسه وهو في الحقيقة للسيد علي اوعسري. وهذه هي المعلومات الكاملة حول هذا المقال والمرجو من اخبارنا نشر التعليق .علي أوعسري الحوار المتمدن العدد: 2953 2010 / 3 / 23 19:38 المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي . .مناقشة في بعض أفكار الجابري حول إصلاح التعليم والمسألة اللغوية
مقبول مرفوض
1
2015/05/09 - 11:20
المجموع: 1 | عرض: 1 - 1

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة