الرئيسية | أقلام حرة | تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة!

تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة!

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة!
 

 

أتسكّع صباحا بعقل مبعثر على الإسفلت المتعب من الروتينيات وأراقب من بعيد الضوء الأخضر الذي يجعل السيارات جامحة كما لو كانت محرّكاتها مصابة بجنون البقر ..وأتنفس هواء القرن الحادي والعشرين بنزق دون أن أملأ فجوات دماغي بجدلية الاحتباس الحراري واتساع ثقب الأوزون وانتهائنا من جراء اختراق أشعّة الشمس لغلافنا الجوي كديك رومي في حفلة شواء بدائية .. إنني في كل مرة أمشي فوق الرّصيف أرى بالشارع انسدادا في الشريان المروريّ وإفرازات بشرية متضخمة من الأدرينالين تجعلني أتخيّل الشاعر الفلورنسي " دانتي " مكان رجل المرور و هو يلوّح بيديه بسخرية ليقول جملته الشهيرة " أيها الداخلون .. أتركوا وراءكم كل أمل في النجاة " إن الكل يبدو مُستعجلا وخطواتهم بعكس المساء غير منتظمة، إنهم يبدون كما لو أنهم في مهمة عظيمة لكن نظراتهم فارغة ولا وقت لأحدهم في الابتسام للآخر .. إنّ الابتسام صباحا ترف معنويّ ! إنّ من ينظر من فوق للآلاف من البشر كلّ يوم بتيليسكوب محايد سيسحق من تحت قدميه كل وجود احتماليّ للعبثية وسيستطيع أن يبصق من كتب التاريخ أسطورة تنتالوس أو سيزيف .. فهؤلاء رفعوا راية العبثية في وضح النهار أمّا نحن فعبثيون مراوغون في الظلام، نمارس طقوس العيش بفوضوية ونتمسّك بأسباب الحياة ونتخبّط في هذه الحياة خبط الناقة العمياء.. إنّنا نبدأ سنوات عمرنا الأولى ولكلّ شيء من حولنا هالة تستحق الدهشة، الأصوات الغريبة وملمس الأشياء وأسمائها، إنّي لا زلت لليوم أتذكر حين أصبت بعمى الإحساس حين عرفت أن هناك قارات مملوءة بالبشر من حولنا وأننا معلّقون بقدرة قادر في الفضاء ..حتى أني لا زلت أذكر أنني أصبت بحالة اكتئاب سطحية جعلتني أفوّت درس النعث والمنعوث وأقف في استراحة المدرسة أتوسّل لأصدقائي كي لا يركضوا حتى لا يكون ذلك سببا في جعل الأرض أثقل مما هي عليه فتهوي بنا ونتحطّم .. الآن وأنا في الرابعة والعشرين أستطيع أن أنشغل بكل التفاهات الممكنة دون أن أتساءل كيف يمكن لسفينة تزن أطنانا أن لا تهوي بثقلها في قاع المحيط ولا كيف لطائرة أن تحلّق بكلّ هدوء دون أن تسقط أشلاء وتتحطّم بالسريع، إنّ في أغلب السيارات الحديثة برنامجا لتحديد المواقع عالميا أو ما يسمى اختصارا بـ " جي بي إس "، نستطيع أن نشغله ونستمع لتوجيهات السيدة الآلية به دون أن تأخذنا الدّهشة من ذلك القمر الاصطناعي المعلّق في الفضاء الخارجي والذي يعمل عن طريقه، نحن لا نتساءل كيف يمكن أن يكون جسم ضخم كذلك مثبتا بالفضاء بطريقة مماثلة .. لا تأخذنا الحيرة كيف يحصل أن نسمع صوت أحدهم بالهاتف ولا كيف يمكننا رؤية أحدهم في الشق الجنوبي من الكرة الأرضية عبر شاشة صغيرة تسمى كاميرا أو قُمرة كما أطلق عليها الرائع ابن الهيثم .. فيطل علينا منها مخاطبنا ومن وراءه شمس الظهيرة وبالوقت ذاته نطل من نوافذنا فلا نجد غير السماء مملوءة بالنجوم المضيئة .. إننا توقّفنا عن الدهشة حين كبرنا ..إننا توقّفنا عنها في اللحظة التي نضجت خلايانا الرمادية وصارت مستعدة للتحليل المُمنطق والتساؤل الممنهج الذي يمنح الأشياء قيمتها ..، إنّ قيمة الأشياء عندنا حفنة أوراق مالية لا غير.. إننا قد نندهش من ثمنها أو شكلها أو فعاليتها أو حتى اسمها لكننا لا نندهش أبدا من سرّ عمل الأشياء، صارت الاختراعات العظيمة استهلاكية تُعمي الإنسان فيصير سطحيا لا يعبث بكنه الأشياء.. حتى صار كل شيء ممكنا دون أن يكون معنا جواب بسيط لكلّ ذلك.. إن عباس ابن فرناس نعتوه بالهرطقة حين فكر في الطّيران وجاء "الأخوان رايت" يحاولان ذلك فاتّهما بالجنون وملأهما الناس بتعليقاتهم الساخرة ولو كنا بذلك الزمن لما اختلف رأينا كثيرا عن هؤلاء .. كنا سنرى الأمر معجزة حقيقية.. ثم إني لا أتحدّث هنا عن أهمّية الحلم بقدر ما أتحدث عن كابوس العدم، فالآلاف إن لم أقل الملايين بزماننا هذا لا تستغرب أن تحلّق طائرة في الهواء رغم أنها لا تستطيع منحك مذكرة مختصرة بالأسباب التي تجعل هذه الطائرة معلّقة في السماء بثقة، الكلّ يضحك حين يشاهد عجوزا تستغرب أمر الهاتف المحمول حين تراه أول مرة وتبحث عن مصدر الصوت فيجعل من استغرابها ذلك نكثة دون أن تكون له يد أو مكنة ليفهم هو الآخر كيف يأتيه ذلك الصوت بشكل علميّ .. فنحن بالحقيقة متحذلقون رغم أننا من الداخل من دون هذه التكنولوجيا عاجزون.. إننا نتعامل مع الآلات بإقطاعية لا تليق بقيمتها بقدر ما تليق بقيمتنا التي فقدت معاني الحياة.. و في الختم ..، تنقصنا الدهشة لنشعر بالحياة !

مجموع المشاهدات: 998 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة