الرئيسية | أقلام حرة | التنمية في عهد الإصلاحات الكبرى: التحديات

التنمية في عهد الإصلاحات الكبرى: التحديات

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
التنمية في عهد الإصلاحات الكبرى: التحديات
 

 

يقول هانتينتون إن "الأمير" إما يضطر للقيام بإصلاحات فتكبر انتظارات الشعب وتفرز هذه الإصلاحات قوى جديدة تنتظم وتتعبأ وينتهي بها الحال إلى تقليص سلطة الأمير (هذا ما وقع في اليابان وكوريا وطايوان وماليزيا وسنغفورة والاتحاد السوفياتي وسيقع في الصين وفي الفيتنام) أو يقاوم هذا الأخير الإصلاح فتبرز قوى تنادي بالإصلاح يتجاوب معها الشعب فتثور ضد الأمير (هذا ما وقع في أوربا الشرقية وتونس ومصر وغيرها). هذا يعني أن الإصلاح له بعد تحولي على المجتمع سواء قامت به النخبة أو قاومته. في المغرب الإصلاحات خلقت وضعا سوسيولوجيا جديدا وجب التأقلم معه ولكن عن طريق وسائل ومقاربات جديدة. 

 

 ما هو هذا الوضع السوسيولوجي الجديد؟ علينا أن ندرك أن الإصلاحات ونمو الاقتصاد والثروة والشغل وتراجع الفقر أفرزت طبقة متوسطة جديدة طموحاتها أكبر بكثير من إمكانياتها. فهي وإن كانت تمتلك سكنا وشغلا قارا (للبعض من أفرادها) فلها طموحات فيما يخص الدراسة والتكوين والجامعة، واقتناء سيارة، والسفر، والترفيه، والزواج، والاستهلاك والتسوق، والتطبيب، والشغل، تفوق إمكانياتها بكثير. العديد من الأسر لجأت الى الاقتراض لتلبي حاجياتها الاستهلاكية فوجدت نفسها أقل قدرة (بالمعنى الذي قال به أماراتيا سين) في التعامل مع مستجدات الحياة اليومية؛ البعض الآخر يكفي أن تقع له صدمة اجتماعية (وفاة، مرض مزمن، طرد من العمل، أوطلاق أو عاهة) حتى يسقط مجددا في عداد الهشاشة؛ فئة ثالثة حاولت تنويع مصادر الدخل عبر أنشطة اقتصادية وتجارية صغيرة موازية (تؤثر بشكل كبير على طبيعة حياتهم وعلى إنتاجيتهم على مستوى الوظيفة القارة)؛ هناك من يعتمد على المساعدة الشهرية من أفراد العائلة والذين تكون أجورهم هزيلة في الأصل؛ وغالبية هذه الأسر تصارع يوميا ضد بطالة الشباب أوإدمانهم أوانحرافهم وهو شيء له وقع وتأثير على جيوبهم وعلى نفسيتهم. اذا الإحباط هو إحباط أسر متوسطة الدخل بكاملها ولد نفورا عارما من الدولة وما تمثله من سياسة ونحب وانتخابات وخطط واستراتيجيات. 

 

أضف إلى هذا أن ما ينقص المقاربة التنموية في المغرب هو معرفة دقيقة بحاجيات المواطنين وأولوياتهم. تظن النخب على المستوى الوطني والمحلي (وأعني بالنخبة هنا رجال الدولة والسلطة والأحزاب والمجتمع المدني) خطأ أنها تعرف ما يريده المواطن؛ غير أن ما تتتصوره وتنجزه من مشاريع لا يستجيب في الغالب لحاجيات المواطنين الملحة أو يستحيب فقط لجزء منها. استشارة المواطنين والتفاعل معهم والأخذ برأيهم ووضع الميزانيات المحلية بطريقة تشاركية وشفافة معهم ليس تقليدا لدى الفاعلين المغاربة سلطة كانوا أو منتخبين أو مصالح تقنية. في بعض الأحيان، فإن الأجندة السياسية للفاعلين، وطنيين كانوا أو محليين (وليس حاجيات المواطنين) هي التي تحدد طبيعة المشاريع. هذا لا يخلق النفور من التنمية فقط ولكن يخلق الإحباط لأن المجهودات المبذولة مهمة والتأثير في حياة المواطن يكون شبه منعدم. 

 

كفايات التخطيط الاستراتيجي وتتبع الإنجاز والتقييم المستمر وإشراك من يهمهم الأمر شيء شبه منعدم لدى الفاعلين التنمويين من سلطة ومنتخبين ومصالح تقنية. الكثير يظن أن التنمية تكمن في البنية التحتية فقط ولا يهتم بتدبيرها وضمان استمراريتها وضمان انخراط من يهمهم الأمر في صاينتها وتسييرها وتعبئة الموارد من أجلها. لهذا نجد دور طالبات بنيت ولم يتم فتحها أبدا ومشاريع مهمة ومكلفة بقيت سنوات تنتظر المساطر والموارد لكي تبدأ في الاشتغال. التنمية هي تدبير وتخطيط وتتبع ونجاعة وانخراط والبنية التحتية ليست هدفا في حد ذاتها ولكنها وسيلة لتحقيق أهداف التنمية. 

 

لم يكن تدخل الفاعلين  موفقا تماما وذلك لتضارب الأجندات الإدارية والسياسية والتنموية ووجود حسابات ضيقة فيما بين المصالح الحكومية  وفيما بينها وبين الهيئات المنتخبة. غالبا ما تبقى المشاريع حبيسة هذه الحسابات وحين يكتب لها أن تولد فإنها تأتي إما غير مكتملة أو معاقة. في السابق كان الولاة والعمال هم االذي ينسقون ويؤطرون ويحاولون تجاوز الصعاب ، لكن مع إعطاء سلطة أكبر للمنتخبين ووجود  هيآت لها الوسائل (مثل الجماعات المحلية والمجالس الإقليمية والجهات) ولكنها لا تشتغل وفق رؤيا واحدة وفي تكاملية وتنسيق فيما بينها، فإن الفوضى والمحسوبية السياسية والانتخابوية هي سيدة الموقف. الدولة توارت إلى الوراء في إطار لامركزية غير مكتملة وغير مفكر فيها بشكل عقلاني، فأنتجت حكامة محلية وجهوية مهترئة لا تخدم التنمية ومصلحة المواطن. وحتى المجتمع المدني فإنه لعب دورا أكبر منه حيث أصبح يقدم خدمات مباشرة بدل الدولة والمنتخبين والإدارة والمصالح المختصة بينما كان بالأحرى به  التركيز على تطوير وتقوية دور التعبئة والترافع وتطوير النماذج الحسنة وتمثيل المواطنين وضمان انخراطهم...

 

تدخل المقاربة الإحسانية تاريخيا في إطار المنظومة الثقافية والقيمية للشعب المغربي ولكنها كانت محصورة في السابق على الفئات المعوزة الغير القادرة على الاشتغال أو الحركة. تعميم هذه المقاربة على فئات أخرى ولد الانتظارية والاتكال وجعل جزءا غير يسير من المجتمع يعيش على انتظار الإعانات المادية والعينية؛ من جانب آخر اعتمد فرقاء سياسيون المقاربة الإحسانية لقضاء مآرب سياسية وانتخابية. عوض التركيز على القدرات والكفايات (كما قال سين) والتي هي أكثر ديمومة ولها بعد تحويلي على سلوك المواطن تم الاكتفاء بالتجاوب الإحساني المؤقت والذي يولد الاتكالية والاسترزاق. وحتى التحويلات المباشرة المشروطة التي نصح بها البنك الدولي (والتي كانت ستساهم في الحد من آفة الفقر بشكل ملحوظ) تم تسييسها مخافة أن يستفيد منها سياسيا هذا الطرف أوذاك.  

 

الإصلاح المزمن والمتعثر للتعليم هو ما يجعل وضع المغرب متدن على مستوى التقرير السنوي للتنمية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية. منذ أواخر التسعينات والمغرب يجرب الإصلاح: من الأكاديميات التي تطلب تأسيسها ودعمها عقدا كاملا (بدل المندوبيات التي كانت لها كفايات مهمة وكانت قريبة من المدرسة والآباء...)، إلى المخطط الاستعجالي الذي لم يعط نتيجة، إلى مدرسة التميز، إلى شعار "الحضور في القسم أولا،" إلى كفايات الإنجاز العلمي والرياضي عبر الامتحانات الدولية...كل هذه الشعارات أعطت بعض النتائج ولكن ليس كل النتائج. حبذا لو ركزنا فقط على أهداف الولوج والجودة وتحسين الحكامة ولكن في إطار تصور تعاقدي لمدة عشرين سنة لا يحيد عنه أحد ووفق تدبير صارم وعملية تدرجية واضحة المعالم والمؤشرات. 

 

على مستوى تحسين الولوج إلى الصحة قطع المغرب أشواط مهمة فيما يخص بناء المستشفيات وتخفيض الأدوية وتعميم التغطية الصحية للطبقات المعوزة وتكوين عدد لا بأس به من الموارد البشرية؛ لكن الولوج إلى المرافق لا زالت تعتريه صعاب وسوء تدبير وجودة التطببب لا زالت متدنية؛ وعملية تعميم الراميد لم تواكبها عملية تمويل مناسبة تخفف من الصغط على المستشفيات وتوفر  الولوج إلى الخدمات في وقت معقول وفي شروط معقولة. 

 

يقول الأمير سلطان بن سلمان، رئيس هيأة الآثار والسياحة بالمملكة العربية السعودية "أن أسوأ شيء يحصل في بلد ما أو اقتصاد هو الفرص الضائعة." الكثير منا يعرف أويحكي قصصا لمستثمرين، مغاربة أو أجانب، غامروا بأموالهم في مشاريع اقتصادية أو أفكار استشمارية فاصطدموا بالعراقيل تلو العراقيل من الإدارة وخصوصا ممن يفترض فيهم أن يكونوا في   خدمة المستثمرين ومساعدتهم وحمايتهم. الإدارة المغربية لها منطقها الخاص والذي يختلف عن منطق خلق الثروة ومناصب الشغل والمساهمة في بناء البلاد. زمن الإدارة هو زمن ثقيل وأساليبها عتيقة ولا تهمها سياسة الحكومة أو مخططات الدولة. الإصلاح الجدري  للإدارة لا زال يبارح مكانه منذ عقدين من الزمن ولم نر بعد بصيصا من الأمل في وجود إدارة منظمة، فاعلة، ناجعة، مجندة لخدمة المواطنين والمستثمرين وخدمة الدولة والاقتصاد الوطني. 

 

 

لكل هذه الأسباب لم يتغلب الغرب على الأمية تماما مع حلول 2015 كما كان مسطرا رغم التقدم الحاصل، ولم نضمن ولوجا شاملا ونوعيا للتعليم على كل المستويات مع حلول 2010-2012 رغم توفير التعميم على مستوى الابتدائي وردم الهوة بين الذكرر والإناث، ولم نوفر شغلا قارا لجل  شبابنا الذي يتخرج من المعاهد والجامعات رغم الاستثمار المبير في البنيات التحتية لاقتصاد الخدمات (القطاع الذي يخلق أكبر عدد من مناصب الشغل)، ولم ينخفض عدل الفقر إلى ما دون 5 ٪‏ كما خطط لذلك رغم أن الملايين غادروا عتبة الفقر، ولم يتقدم المغرب على مستوى مؤشر التنمية للأمم المتحدة (بل وتدحرج إلى الوراء في السنوات الأخيرة)، رغم تحسن مؤشرات الوفيات لدى الأطفال والأمهات. 

 

 التنمية في المغرب هي "نصفها تين ونصفها عنب" كما يقول الفرنسيون. وإن أراد المغرب أن يحقق تنمية "كلها تين" أو "كلها عنب" عليه أن يبدع في خلق واعتماد نموذج تمموي جديد أكثر صرامة وأكثر نجاعة وفعالية، وهذا النموذج يقتضي تغييرا حذريا في التصور، في المقاربة، في كيفية تعبئة الفاعلين، في التتبع وفي التقييم والمحاسبة. التنمية هي سياسية بالمعنى النبيل لكلمة سياسة، أي  خدمة الوطن والمواطن، ولكنها لا يجب أن تكون سياسية بالمعنى المصلحي أو الإيديولوجي أو الانتخابوي. ولا أحد يمتلك حقيقة أين تكمن مصلحة الوطن والمواطن، بل هذا نتاج عملية تداولية بين النخب والمواطنين وفي إطار نقاش عمومي تؤطره أدبيات المواطنة المدنية الحقة والمتجددة كما سنرى في المقال الموالي.

 
مجموع المشاهدات: 1719 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة