الرئيسية | أقلام حرة | حينما انبرى كيوبيد خجلا.. "مرتي,بنت عمي,تاج راسي"

حينما انبرى كيوبيد خجلا.. "مرتي,بنت عمي,تاج راسي"

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
حينما انبرى كيوبيد خجلا.. "مرتي,بنت عمي,تاج راسي"
 

 

يساق احد المعتقلين السوريين إلى حتفه سحلا,وقد عجزت قدماه عن الوقوف,بعدما تعرض لصنوف التعذيب,خاصة انه على يقين بأنه يساق إلى حتفه,بعيدا عن الشوارع الرئيسية,وذلك ما يعرفه كل مواطن سوري يسوقه القدر إلى احد حواجز العلوية,الذين يتعبدون بذبح "دراويش" أهل السنة خاصة,فكل قطرة دم في قاموسهم هي مقدار من الحسنات تنكب في مكبات حسناتهم,زعماَ..

 

كان كل هم ذلك الأربعيني الحلبي,الذي جرد من ثيابه بعدما جرد من كرامته وإنسانيته على مر العقود, أن يرى أطفاله,ليحتضنهم ويشمهم,يقبلهم ويودعهم,وهو يساق إلى الذبح على يد العقيد كما قال احد الجنود "الشبيحة" الذين يسحلونه,يرفع يديه ليحمي وجهه من ركلاتهم وضرباتهم,يهمهم مرددا" ولادي..ولادي..",قواه الخائرة تخذله,فيتحمل مزيدا من الضربات التي تحثه على السير إلى مصيره المعلوم, يلتفت إليه الشبيح ليتبين ما يقول,فيسمعه يردد يهمهم بكلمات متقطعة ومتهالكة, من فرط الألم: "ولادي..ولادي"..

 

يتوقف الشبيحة ليتبينوا ما يقوله فيرفع سبابته متضرعا :" دخيييل الله..دخيل الله..بس خليني أودع أولادي,هدول كل شي",يسأله احدهم عن مكان أولاده,فيشع الأمل في نفس المسكين,وقد ظن أن ضمير العلوي قد تحرك :"هم في البيت مع أمهم",آنذاك يتبادل العلوية نظرة متخابثة,وينبري احدهم قائلا :"بتخليني...مرتك؟ اذا بتخليني..مرتك بخليك تودع أولادك,شو؟",

 

يزدرد الحلبي ريقه في صعوبة,وقد انطفأت شعلة الأمل في أعماقه,قبل أن  ينزل عينيه في انكسار,قائلا في مرارة "أعوذ بالله، هي مرتي، تاج راسي",نطقها بكل وله وحب,في الوقت الذي يعلم فيه علم اليقين بأنه يقاد إلى الموت بداعي الكراهية,لم يصفها بأنها حرمته وشرفه,بل أنها "تاج رأسه",نطقها بكل عفوية وظل رددها كلما حاول الشبيح العودة إلى المقايضة,مؤكدا ومثبتا لحب غير عادي جمعه مع "بنت عمه" وتاج رأسه,وهو الشيء الذي لم يفهمه الشبيحة وهم يتبادلون نظرات الغباء العاطفي,مستغربين ومستنكرين..

 

لا شك أن المسكين وككل مواطن مطحون في الدول العربية,قد عانى الأمرين طوال سنين عمره,وانه لطالما ذاق الهوان والذل في حياته اليومية,حيث اللقمة بإهانة,والخدمة بمن ونذالة,لابد انه كان إنسانا جد بسيط,يمشي جنب الحيط ويقول ي اربي السترة,يكدح طوال النهار ليأتي في أخره رافعا كيسا اسودا,قد احتوى بعض الخضر والخبز,وان كانت حصيلة اليوم جيدة فقد يحتوي الكيس بعض الفاكهة أيضا,لابد انه حينما كان يدخل إلى بيته الصغير,يستقبله أطفاله الصغار وهم  يتقافزون فرحين بقدومه,يمسح عرقه بطرف يده وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة عذبة,مشرقة,يرفع كيسه عاليا وهو يشارك أطفاله الضحك,كأنما عاد للتو من حرب ضروس,حاملا غنيمته التي انتزعها من بين أنياب الأسد..

 

ولا شك انه كان طوال الطريق ينتظر ردة فعل "تاج رأسه" لابد انه حينما سيرجع إليها حاملا كيسه البسيط, ومحتوياته البسيطة, ستتهلل أساريرها وهي تدعو له من أعماق قلبها, و بكل ضراعة:" الله لا يحرمني منك ابن عمي..يا تاج راسي أنت"..

 

لم يكن يتوقع أن تكون نهايته,مسحولا ومجردا من ثيابه,وبأنه سيجرع الم الاحتضار وحيدا,بعيدا عن بيته الصغير الدافئ,لتصبح آخر أمنية له الظفر بلحظة يمعن فيها النظر إلى أطفاله,محاولا حفر  ملامحهم في قلبه وروحه,كما انه لم يكن يتصور انه في يوم من الأيام سيقابل العلوية وجها لوجه,وقد سمع طوال عمره عن وحشيتهم و ساديتهم التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا,حتما انه قد عايش أحداث الثمانينات,وحتما انه كان يتهرب من دخول مراكز الشرطة والأمن,ما استطاع لذلك سبيلا,ولابد انه حينما  كان يجهز بطاقة هويته,عانى من الكوابيس وأرهقه الأرق,لعلمه كباقي السوريين بان 90 بالمائة من رجال الأمن هم من العلوية,الذين كانوا يتلذذون يتعذيب المواطنين وتأخير شؤونهم..

 

أكيد أن هذا الرجل الشهم لم يكن يردد على مسامع زوجته أشعار ادونيس أو نزار قباني,فلا بد أن هموم الحياة كانت تمنعه من إظهار حبه وولهه, لا أظن انه كان يقتني ل "بنت عمه" الإزهار الحمراء وعلب الشيكولاته الفاخرة ليعبر لها عن مشاعره الفياضة,ولا أظن انه كان يحتفل وإياها بعيد الحب,فيقتني لها الدببة وقوالب الحلوى,لكنه لحظة الجد أبدى ما عجز أشجع الشجعان عن إظهاره,اظهر أسمى معاني الحب والعشق تجاة محبوبته,بكلماته تلقائية بسيطة أدخلته التاريخ من أوسع الأبواب,وهو يضحي بحياته واخرر رجاء,مقابل صيانة عرضها وحفظ شرفها,فلطالما كانت التاج الذي يهون عليه قساوة الحياة ومصاعبها..

لقن هذا المواطن الحلبي درسا لمن يصور الحب كدثار لصيد العواطف وكسر القلوب,وتعالت كلماته على من يروج للحب كشعار استهلاكي,قدم بتضحيته تلك,وبكلماته تلك,ما لا يحتاج إلى أغاني النهنهنة والدموع والآهات,قدم ما يعجز عن تصويره اشطر المخرجين..

كانت كلماته تلك,كأنما هي نجوى,يناجي بها نفسه,ليعزيها عما لاقته وستلاقيه,كان يتكلم بلغة لم يكن ليفهمها شبيحة الأسد,كان يتكلم بكلمات تحتاج إلى مشاعر وقلوب لتتم ترجمتها..

 

كلماته التي أدمت قلوب المئات,تجعل المتفكر يعيد النظر في الشعارات البراقة التي يحاول البعض رسمها,وبان كل مسلم يساق للموت فهو يمشي بشجاعة,فغريزة البقاء تجعل الإنسان يتعلق بالحياة إلى آخر رمق,والمسلم ليس آلة,كما يحاول البعض تصويره بل هو سيل من الأحاسيس والمشاعر,يحب لقاء الله ولكن لحظة الاحتضار صعبة,خاصة لمن كان يعرف بان له عصافير تنتظره بالبيت,فاغرة فاها بانتظار لقيمات يقيمون بها صلبهم,ويعلم انه إذا غاب عنهم فسيتعرضون لصنوف الذل والمهانة,وهو الذي كان يتمنى يحاول طوال عمره تجنيبهم ما لاقاه,بتوفير حياة الكرامة والسعادة قدر ما استطاع..

قتل رحمه الله,ومازالت الفيديوهات المسربة,تتناقلها المواقع الإخبارية والاجتماعية,حاصدة كما من الترحم والإعجاب,وهو الشيء الذي لم يحلم به المسكين أو يدر في خلده يوما,فسبحان من أوعز إلى بعضهم أن يصور جرائمه,ليخلد التاريخ عز المقتول وذل القاتل ونذالته,عوض أن يرتجف المشاهد ويقف احتراما وتزلفا للقاتل,إذا بالآلاف يسجلون إعجابهم بالبطل السوري التلقائي,الذي فضل الموت على أن تمس حبيبته بأدنى سوء..

 

وستبقى كلماته تأرق نوم قاتليه,وسيهرعون للقواميس بحثا عن ترجمة شافية لكلمات ذلك البطل وأنى لهم بان يعرفوا معنى ما ردده قبل موته :" مرتي بنت عمي..تاج راسي..تاج راسي",فكلماته نابعة من انسان منزله في السماء,وليس بشرا يرضى بالدنية في الارض.

 

 

 

 

مجموع المشاهدات: 3248 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (1 تعليق)

1 | نورالدين الم
الابداع في زمن الفتنة
الجيمل في هذا النص \ المقال انه من انتاج نسائي يوحي بيقظة فكرية لهذه الامة التي يراد لها العودة الى زمن الفتنة ، فهل تستطيع نساء هذه الامة انجا ب ( من ذكور و ا نات )من يجد حلولا بدل النفخ على وتر الطائفية و الدين و العرق؟ والى ابداع نسائي اخر دامت نون النسوة ولادة في بلاد الشام
مقبول مرفوض
0
2014/08/27 - 11:46
المجموع: 1 | عرض: 1 - 1

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة