الرئيسية | أقلام حرة | الخدمات السيادية: الخصم السياسي القادم

الخدمات السيادية: الخصم السياسي القادم

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
الخدمات السيادية: الخصم السياسي القادم
 

 

كثيرون هم الخصوم السياسيون الذين ضايقوا الحكام عبر التاريخ. و كثيرة هي الأشكال التي تقمصتها المعارضة في لعب دورها النقدي، من عائلات وازنة و ميليشيات مسلحة ( اليمن و حوثيوه كنموذج) و جيوش نظامية كما هو الحال في مصر و أحزاب سياسية كما هو الشأن في الديمقراطيات الغربية. لقد كانت في مجملها تنظيمات و مؤسسات مؤطرة تعمل بأدوات الإستقطاب السياسي المتعارف عليها، تتخللها في بعض الحالات الشاذة استعمال للقوة العسكرية كما هو الحال في ليبيا ما بعد الربيع. لكن المستقبل  ينذر بخصم سياسي من عيار مختلف تماما. ليس في الشكل فقط، بل في الجوهر كذلك. فجل التجارب الأخيرة التي مرت بها شعوب العالم سياسيا – الناجحة منها و الفاشلة – أفظت إلى تعزيز مكانة جودة الحياة على حساب جودة المنظومات السياسية المتبعة، بحيث أصبح تحقيق الرفاهية المعيار الأهم الذي ترتكز عليه المجتمعات و الشعوب لتقييم أداء الجهات الحاكمة بمختلف مشاريبها، و بالتالي تحديد مستقبلها السياسي. فجل القضايا التي يتم تحريكها من طرف الأطراف السياسية الحاكمة أو تلك التي تتموقع في خانة المعارضة، و التي لا تهم مباشرة ترتيب المجال الحياتي للمواطنين لم تعد تغزوا وجدان الشارع العام بالقدر الكافي الذي من شأنه إستقطاب الناخب و بالتالي تحقيق النجاح الإنتخابي أو الإعتراف الشرعي المؤمول.

فالقضايا المتعلقة بالحريات و الديموقراطية و المساوات و القومية و غيرها لم تعد، كما كانت في السابق، قضايا حاسمة في توجيه مسار الإستحقاقات الإنتخابية، في ظل تعثر جودة الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن في حياته اليومية من طاقة و نقل و خدمات إدارية و غيرها. فالسرعة الفائقة التي عرفها تحضر العالم في الحقبة الأخيرة أفضت إلى تمدد سريع للمدن على حساب البادية، و بالتالي إلى إرتفاع الضغوط التنظيمية و التخطيطية للإستجابة للمتطلبات الحياتية للسكان في خضم التحديات الديموغرافية التي باتت تعرفها أغلب المتروبولات العالمية، و التي أصبح ثقلها السياسي عاملا حاسما سواء عبر صناديق الإقتراع أو عبر التحركات الميدانية. كما أن الإنفتاح المعلوماتي الحالي و ما واكبه من تأثيرات بينية للأمم و الشعوب جعل الخدمات الحضرية المتوفرة في العالم المتقدم وحدة القياس الأهم التي أصبح تعتمد عليها ساكنة الدار البيضاء و أبيدجان و شانغاي و ساوباولو مثلا لتقييم جودة الخدمات المعروضة في مدنها، بعد ما كان المواطنون يلتجؤون في تقييمهم إلى المقارنة مع الوضع في المناطق النائية القريبة. الأمر الذي رفع من سقف تطلعات سكان الحواضر في جل أنحاء المعمورة بما فيها الدول النائية و العالم الثالث مجملا.

فالخدمات الأساسية – أو السيادية كما أحث على تسميتها للتأكيد على أهمية الإحتفاظ  بها تحت مسؤولية و تصرف المؤسسات الرسمية، و لو في حالة تفويت جزء منها إلى القطاع الخاص، لما تمتلكه من تأثير مباشر على إستقلالية و إستقرار الدول – على غرار القضايا السياسية المحضة، تقتضي التخطيط و الإنخراط المبكر، كما أنها لا تقبل التأجيل أو التأخير في إنجازها مهما كانت الضغوط الموازية. و السبب في هذا هو أن تعثر الخدمات السيادية لا يعالج في فترة وجيزة أو بفعل ترتيب سياسي عاجل (إستقالة، إنتخابات مبكرة، تحالف، تغيير حكومي، ...)، بل يكون التعثر ناتج غالبا عن سنوات و عقود من الإهمال و التماطل. و بالتالي تنحصر الحلول أمام الحكومات في جبر سريع للضرر حتى و لو توفرت النية الصادقة و الغلافات المالية اللازمة لتدارك الموقف، لأن ميزة الخدمات السيادية يتمثل في كون توفيرها يمر عبر إنجاز مشاريع ضخمة تتطلب سنوات من التخطيط  ناهيك عن فترة الإنجاز و التشغيل التي تمتد لسنوات إضافية يصعب على المواطنين إنتظارها، و بالتالي يصعب عليهم غفران سنوات الإهمال و التماطل، فيلجؤوا إلى العقاب و الطرد السياسي كأول ردة فعل منهم. و من هذه النقطة بالذات تستمد الخدمات الأساسية أهميتها كونها أصبحت الخصم الأهم الذي بات يتربص بالمستقبل السياسي للأحزاب و النخب السياسية، كما من شأنها الإطاحة بالحاكم إن هو لم يعيرها الإهتمام المبكر و اللازم.

 

لإستشعار الدور المتزايد الذي أصبحت تلعبه الخدمات الأساسية في توجيه بوصلة العملية السياسية، بل و تحديد مسارها و مصيرها في آن واحد، يكفي التأمل في الأحداث السياسية التي شهدتها مصر ما بعد مبارك. فغياب الخدمات الأساسية و تعطيلها في هذا البلد كان المحفز الرئيسي الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي. كما أن الشرعية الديموقراطية التي أفرزت حكومته لم تشفع لها في ظل تدهور الخدمات الأساسية اللازمة من توفير للكهرباء و الفيول و توزيع سلس للرغيف و توقف حركة المرور و غيرها من الخدمات التي يحتاجها المواطنون لقضاء أغراضهم اليومية. و هي نفسها الأسباب التي تقض مضاجع العسكر الحاكم حاليا و تضطره للإعتذار مرارا و تكرارا أملا في تهدئة السخط الإجتماعي المتنامي. فبعد تجفيف و تمييع كل القوى السياسية الفاعلة في المجتمع المصري أصبحت جودة الخدمات الأساسية المنافس الوحيد الذي بات عمليا يهدد الساسة الجدد و يفضح ضعف آداءهم.

 بالرغم من الدور الحيوي الذي أصبحت تلعبه الخدمات الأساسية في الحفاظ على إستقرار الدول السياسي و سلمهم الإجتماعي، فإنه عادة ما يتم تجاهلها من طرف السياسيين المنتخبين و أولئك المتموقعين في خانة المعارضة على حد سواء. و السبب في هذا يرجع بالأساس إلى أمرين إثنين:

الأول يتمثل في طول المدة الزمنية التي يتطلبها إنجاز الخدمات الأساسية (كالطرق السيارة أو خطوط السكك الحديدية الحضرية أو المستشفيات). فعملية البرمجة و التخطيط و الإنشاء تفوق زمنيا الدورة الإنتخابية، بحيث تتحقق الإستفادة الفعلية من الخدمات المنجزة و استشعار إيجابيتها من طرف الناخب خارج الدورات الإنتخابية التجديدية، مما يجعل المشاريع الكبرى التي تطلقها الحكومات غير مكتملة لإستثمارها في الدعاية الإنتخابية القادمة، بل على العكس تماما، فتدشين هذه المشاريع يتم غالبا من طرف الخصوم السياسيين الفائزين بالدورات القادمة مما يخول لهم الإنتفاع منها دعائيا و استثمارها سياسيا في تقوية حضورهم في الشارع و ذلك بنسبها إليهم دون سواهم من الحكومات السابقة. الشيء الذي يفقد إنجاز الخدمات الأساسية أولويتها المستحقة في أجندة الحكومات المتعاقبة.

أما السبب الثاني و المؤدي إلى التقصير في التخطيط و الإعتناء بجودة الخدمات الأساسية على المدى المتوسط و الطويل، فيتمثل في قلة تركيز المعارضة السياسية مبكرا على الخصاص الذي قد يطال الخدمات الأساسية مستقبلا في ظل تماطل الخصوم السياسيين الذين هم في سدة الحكم في إعداد المخططات و الدراسات اللازمة و العمل على تنفيذها. تقصير المعارضة هذا، ينبع من كون أدبيات المعارضة – الغير الناضجة – تنص على طرح القضايا الآنية و التركيز على المشاكل الحاصلة باعتبارها الأسرع ولوجا و تجاوبا مع الشارع مقارنة بالعاهات التخطيطية المؤدية إلى أزمات مستقبلية و التي تعتبر وفق أدبيات المعارضة – الغير الناضجة –  قضايا ثانوية، بل و مضيعة للجهود، خصوصا في ظل غياب الوعي الشعبي بأثر المتغيرات الديموغرافية و الجيو-إقتصادية على مستقبل الأجيال القادمة و بالتالي ملحاحية التجاوب معها لحصر تأثيراتها المستقبلية.

من هذا المنطلق يتعين التفكير في وضع آلية ( على شكل هيئة عليا ) جديدة لمراقبة تفعيل المخططات الإستراتيجية المتجاوزة للمصالح الحزبية الضيقة، و العمل على أقلمتها و تجديدها بناءا على المعطيات العلمية المتوفرة، و ذلك لضمان استجابتها لحاجيات الشعوب و تغطية احتياجاتها. كما يجب على هذه الهيئة أن تكون مستقلة عن السياسة لكنها رادعة للسياسيين في نفس الوقت، أي أن عليها أن تتمتع بالمصداقية و الكفاءة اللازمتين، لإعطاءها قوة التأثير على صوت الناخب و بالتالي  الضغط على المنتخب. كما يتعين على هذه الهيئة التمتع بالإستقلالية الذاتية في إختيار أدوات العمل و تعيين القائمين على تسييرها طبقا لقوانين تأطيرية داخلية شفافة و ديموقراطية. هذه الإستقلالية  تهدف بالأساس إلى قطع الطريق على أي تدخل أو ضغط سياسي يهدف إلى التأثير على نتائج دراساتها و أبحاثها بما يخدم مصالح فئة معينة أو يغطي على إخفاقاتها التدبيرية.

و لضمان مزاولة الهيئة المذكورة أعمالها دونما تعطيل أو إعاقة، يتوجب تمتيعها بحق الولوج إلى المعلومة من طرف المؤسسات الحكومية الرسمية و إيفادها بكل المعطيات التقنية الضرورية حول دراسات الجدوى المنكب على إنجازها من طرف المؤسسات المختصة أو المشاريع المبرمجة أو تلك التي هي طور الإنجاز. كما يتعين على الهيئة المقترحة إصدار تقاريرها إلى الرأي العام بشكل دوري لإحاطة المواطن بمكامن الخلل في التخطيطات الإستراتيجية للدولة و تقييم إستجابة الإنجازات الحكومية لمتطلبات المجتمع المتراكمة.

تنظيميا، يتعين أن تكون الهيئة مقسمة إلى مراكز علمية مستقلة تتمتع كل واحدة منها بطاقم و أدوات خاصة، على أن تشمل هذه الاقسام المجالات الآتية على أقل تقدير:

-          شبكة المواصلات و التخطيط الطرقي

-          مصادر الطاقة و شبكات التوزيع

-          الرعاية الصحية و برامج مكافحة الأوبئة

-          الأمن الغذائي و المائي

-          قرب الإدارة و تبسيط المساطير الإدارية

 

خلاصة:

 

بينما تنشغل الحكومات في حل الأزمات العاجلة لحفض التوازنات العامة للدولة في دور شبيه برجل إطفاء، و تربص المعارضة بها لإقتناص كل تعثر تدبيري لإلقاء اللائمة عليها، يفقد التخطيط الإستراتيجي لحفض حق الأجيال القادمة في العيش الكريم وهجه، لا لشيء إلا لأن صوتها الإنتخابي لم ير النور بعد. لكن هذا لا يمنع أن يكون وصول صوت أبنائنا سابق لأوانه إن تم إبتكار آليات ذكية للرقابة تلعب في آن واحد دور السند للحكومة من خلال تأطير أولوياتها، و للمعارضة من خلال توجيه عملها النقدي.

مجموع المشاهدات: 911 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة