سياحتنا الداخلية وأعطابها

سياحتنا الداخلية وأعطابها

علي كرزازي

" وضعتني في المهب وقالت: ليست الحياة في الإقامة، الحياة في السفر" - قاسم حداد -

 

لا أحد يجادل في كون قطاع السياحة في المغرب، تلقى ضربات موجعة في زمن كورونا بسبب اغلاق الحدود والحدّ من حركة السفر والتنقل، وحينما نتحدث عن السياحة خاصة الخارجية منها ، تقفز الى أذهاننا مراكش المدينة " الأسطوربة" بساحتها الشهيرة " جامع الفنا " وفنادقها الفخمة، تنضاف اليها المدن العتيقة بمآثرها التاريخية نظير الرباط، فاس ، مكناس، ووجدة...ناهيك عن المدن المشهورة بشواطئها الجميلة خاصة مدن الشمال : المضيق، مارتيل وطنجة بموقعها التاريخي وببعدها الدولي والتاريخي. وإذا يمّمنا وجهنا شطر الجنوب وجدنا اكادير والداخلة والعيون بشواطئها الساحرة وتنوعها الطبيعي والبيئي، وفي الجنوب الشرقي تشتهر جهة درعة تافيلالت بواحاتها الرائعة وقصباتها التاريخية وكثبانها الرملية واجوائها الصحراوية الماتعة...وهذا غيض من فيض.

 

لكن في ظل هذه الأزمة الخانقة التي أرخت بظلالها على واقع السياحة وطنيا ودوليا، تصاعدت الأصوات الداعية الى تشجيع السياحة الداخلية في أفق التخفيف من آثار هذه الأزمة، غير أنّ إجراءات الحجر الصحي وارتفاع وتيرة وباء كورنا في الآونة الأخيرة، لن يجعل هذا الخيار متاحا على الأقل في المدى القريب والمتوسط، ومع ذلك يمكن القول ان السياحة الداخلية عانت وستعاني من عدّة اكراهات تقف حجرة عثراء في سبيل تطويرها، ولعل ابرزها تدني المستوى المعيشي للمواطن المغربي، غلاء ولوج الفنادق والوحدات السياحية، ناهيك عن ارتفاع الأسعار خلال العطل خاصة العطلة الصيفية التي تشهد اقبالا كبيرا على المواقع والمنتجعات السياحية، علما بأنّ الطبقة المتوسطة التي كانت لها دور فعال في هذا المجال، أصبحت هي الأخرى غير قادرة على انعاش هذه السياحة بسبب ما أصبحت تعاني منه من ضعف قدرتها الشرائية واثقال كاهلها بالقروض الاستهلاكية...

 

ومن مطبّثات تطور السياحة الداخلية كذلك ضعف البنيات التحتية في أغلب المناطق السياحية خاصة في المناطق الجبلية والبعيدة والتي تعاني من تهميش كبير، وينضاف الى هذه العوامل عدم تبني سياسة تشجيع الانفتاح على القطاع الخاص فيما يتعلق بالاستثمار في بناء المخيّمات والمآوي السياحية، مع غياب تام للحملات الدعائية والوصلات الاشهارية التي تستهدف التعريف بجهات بلدنا وما تزخر به من ثروات طبيعية وثقافية يمكن أن تشدّ اليها السيّاح المغاربة.

 

شخصيا لقد أتاحت لي ظروف جائحة كورونا الوقوف على حقيقة مؤلمة سأرويها لكم من خلال سرد هذه الواقعة: كنت كلّما رجعت الى المنزل في الأشهر الأخيرة الّا والحّ عليّ اطفالي بأن أخرجهم للتفسّح ، وكنت أجد عنتا كبير في اقناعهم بضرورة عدم المجازفة بالخروج من البيت، وبعد التخفيف من إجراءات الحجر الصحّي استعرّت مطالبتهم بالسفر خارج مدينة مكناس (حيث نقطن). في نهاية الأسبوع الأول قصدنا غابة افران التي كانت في سنوات خلت أشبه بالجنّة بمياهها العذبة الرقراقة وخضرتها اليانعة، أمّا الآن فقد قلّ ماؤها وغابت نضارتها في ظل غياب تام لأي اهتمام أو تهيئة لمجالها الطبيعي والبيئي، لا من لدن المصالح الجماعية ولا الإقليمية أو حتى الجهوية. " ما احلى افران وما احلى جماله"...ضاعت ترنيمة المرحوم " إبراهيم العلمي" في غمرة هذا الواقع القاتم البئيس.

 

في نهاية الأسبوع الثاني قررت أن أذهب بمعية أسرتي الى مخيّم " تومللين" بغابة أزرو، كانت قد مرّت أربعون سنة على زيارتي لهذا المخيّم، كنت إذ ذاك طفلا صغيرا ، وكان المخيّم يضم حجرات للنوم، ومطعما، ومبنى إداريا ومرافق صحيّة. كانت الطبيعة آية في الجمال والجلال بمياه العيون المتدفقة، وأشجار البلوط الباسقة، ونسائم الأعشاب العطرية الفواحة:" فليّو، مرسيطة...الخ" . امّا الأن فالطريق الثانوية المؤدية الى المخيّم أصبحت مهترئة ومرافق المخيم نفسها تهدّمت معالمها وأصبحت مجرد أطلال... وغير بعيد عنه يوجد مخيّم آخر على بعد حوالي 3 كيلومترت ، إنّه مخيّم " عين خرزوزة " الذي فقد هو الآخر الكثير من مقوماته وبهائه، في السابق كانت القرود لا تتجرأ على الاقتراب من رواد المخيّم/ المنتزه ، أمّا الآن فبسبب الجفاف وانقراض الحيوانات الصغيرة التي كانت تقتات عليها، فقد

 

أصبحت تحاصرك بمجرد أن تبدا في طهي الطعام أو البدء في تناوله، لدرجت أنّي تخيلت في لحظة أن هاته القرود ستزحف يوما في اتجاه مدينة آزرو بحثا عن مصدر عيش لها.

 

ازّاء هذا الواقع المزري تذكّرت العشرات من المواقع الطبيعية الجميلة والمآثر التاريخية الباذخة المتناثرة في رقعة مغربنا والتي تعاني من وطأة الإهمال، وبقليل من الإرادة والعمل الجاد، كان من الممكن أن تصبح معالم سياحية وثقافية رائدة تستقطب العديد من السيّاح سواء من الداخل أو الخارج، لحظتها تساءلت في دواخلي:

 

- ما دور المصالح المركزية والجهوية لوزارة السياحة في هذا التردّي؟ هل للجماعات المحلية مسؤولية في هذا الشأن؟ لماذا نفتقر لسياسة ورؤية سياحية وثقافية قادرة على النهوض بقطاع السياحة وخاصة الداخلية؟ لماذا لا نفيد من تجارب الدول الأجنبية في تأهيل سياحتنا واستغلال المعطيات الطبيعية والبيئية والتاريخية والثقافية، التي يزخر بها بلدنا الذي حباه اللّه بطبيعة ومناخ وثقافة وتاريخ غاية في الغنى والتنوع، وهو ما يؤهله ليكون " أجمل بلد في العالم " على الأقل في أعين أبنائه وساكنيه ؟ !!

 

 

أترك لكم احبابي فسحة رحيمة للتأمل والاعتبار والى لقاء قريب.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة