الرئيسية | أقلام حرة | أشياء كان يجب أن تحدث

أشياء كان يجب أن تحدث

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
أشياء كان يجب أن تحدث
 

 

كان يجب أن أولد في عصر الصّور والأفلام والأغاني ذات اللّونين الأبيض والأسود وسيّارات فورد ذات اللّون الواحد. كان يجب أن أولد في زمن كانت المراسلات فيه تتم عبر المخطوطات، ويتم انتظارها لأسابيع حتى تصل. كان يجب أن أولد حين كان حضور حفلة موسيقية لموزارت يعتبر بذخا ثقافيا، وحين كانت القراءة لأدباء النّهضة حكراً على طبقة النّبلاء. كان يجب أن أولد في أحد تلك الأزمنة التي صنعت التاريخ، لا في الزّمن الذي يقتلُ روحَ الحضارة.

 

كان يجب أن أعلم في مرحلة الدراسة الابتدائية أن تلك المادة "المعجونة" التي لطالما طلبوا منا إحضارها معَ لائحة الأدوات المدرسية كانت بلا قيمة، وأن حصص "التربية الفنية" التي كنا نقضيها في قطع ولصق وتلوين بعض الأشكال التي لا معنى لها كانت مضيعة وقت سخيفة، والدليل هو هذا الجيل الذي انتمي إليه، لا يعرف للإبداع طريقاً ولم تعلمه تلك الأنشطة المدرسية أكثر مما علّمته الأزقة والشوارع. كان يجب أن لا أدخل عالم الكتب ولا أقع في عشقها لأني ما إن قررت الابتعاد عنها حتى وقعت في حبي بدورها وابتلعت كل ما بقي بداخلي من أثر للحياة. كان يجب أن أعلم أن دروس اللغة العربية التي تلقيناها لم تكن ضرورية حقا لبلوغ أية غاية، فهمت ذلك مؤخراً منذ أن بدأت أستمع لخطابات سياسية وثقافية لا يعرف أصحابها الفرق بين المنصوب والمجرور ويأتون بكلمات لم يسمع بها إمام اللغة العربية وشيخ النحاة سيبويه نفسه. كان يجب أن أتأكد من لا جدوى دروس التفاعلات النووية والفيزياء النظرية والكيمياء العضوية ما دمنا لا نملك مستوى علميا متقدما في الوطن لتطبيقها، وما دامت لا تصلح سوى ليتم ملء فراغات البرامج الدراسية بها، وتلقينها للتلاميذ جيلاً بعد جيل حتى يصبحوا أساتذة بدورهم ويعيدون تلقينها للأجيال التي تأتي بعدهم. كان يجب أن أعلم أن النّص الشعري الذي لطالما رددناه في طفولتنا "أرسم علمي فوق القمم، أنا فنان، أنا فنان" كان يهدف إلى إنتاج فنانين يرفعون العلم فوق قمم القنوات الأجنبية، ولم يكن له علاقة برفع العلم بداخل الوطن عن طريق العِلم والإبداع. كان يجب أن أعرف أن معظم البنايات التي يرفع فوقها العلم هي نفسها التي تتم بداخلها خيانة الوطن. وأن معظم الذين يقومون بتحية العلم كلّ صباح هم من يساهمون في الغدر به كلّ مساء. كان يجب أن أتأكد من أن المعركة بين الخير والشر التي تفضي في النهاية إلى هزيمة الشر وإحقاق الحق والخير كانت مجرد سيناريوهات حفظناها عن طريق أفلام الكرتون وحين كبرنا وجدنا أننا نعيش عكسها تماما. كان يجب أن أعلم أن الحمقى وحدهم يتعاملون بصدق وحسن نية مع الجميع، في حين أن أولئك الذين يريدون الوصول لأهدافهم يعرفون كيف يتلاعبون بأي شيء لأجل مطالبهم، وأن ما تعلمناه من الهندسة الأقليدية أن "أقصر طريق من نقطة إلى نقطة أخرى هو الخط المستقيم" كان مبدأ لا يصلح تطبيقه في مجال المعاملات مع البشر الذين لا يثقون إلاّ بأولئك الذين يختارون طرقاً ملتوية ويسلكونها للوصول إليهم. وأخيراً كان يجب أن أتذكر بأن خيار "إعادة اللعب" بعد الهزيمة في الألعاب الإلكترونية غير متاح في لعبة الحياة على الإطلاق.

مجموع المشاهدات: 1291 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة