عبد الغني السرار
يرتبط الحوار الاجتماعي المركزي بشكل مباشر بعالم الشغل وفض النزاعات الاجتماعية والاقتصادية...، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، فهو يرمي إلى تحقيق قدر من السلم الاجتماعي والاقتصادي داخل الدولة، وهو يشمل عادة كل التدابير والإجراءات التفاوضية التي تجري بين أطراف العلاقة الشغلية في القطاعين العام والخاص على حد سواء والحكومة؛ أي بين المنظمات المهنية لأرباب المقاولات وبين المنظمات النقابية للأجراء والموظفين والسلطة الحكومية على المستوى المركزي، ومن أدبيات الحوار الاجتماعي المركزي أن ينعقد بكيفية دورية ومنتظمة.
هذا، وتعتبر وثائق منظمة العمل الدولية مرجعا أساسيا في كل ما يتعلق بقضايا الشغل والحوار الاجتماعي المركزي؛ انطلاقا من الرصيد الوثائقي الهام الذي تتوفر عليه هذه الأخيرة، بدءا بدستورها الصادر سنة 1919 الذي أكد في ديباجته على أنه: "لا سبيل إلى إقامة سلام شامل ودائم إلا إذا تأسس على منطق من العدالة الاجتماعية"، مرورا بالاتفاقيات والتوصيات التي أولت من خلالها للحوار الاجتماعي مكانة وأهمية خاصة. وتُعرف وثائق منظمة العمل الدولية الحوار الاجتماعي بكونه: "كل أنواع التفاوض أو التشاور بين ممثلي الحكومات والمنظمات المهنية لأصحاب العمل والمنظمات النقابية للأجراء بشأن القضايا المشتركة". إذا ما هي المرجعيات المؤطرة للحوار الاجتماعي المركزي بالمغرب؟؛ وما هي أهم المنجزات؟.
أولا: المرجعيات المؤطرة للحوار الاجتماعي المركزي -ثلاثي الأطراف- بالمغرب.
بادئ ذي بدء، وجب الإقرار بأن الحوار الاجتماعي في المغرب ليس وليد اليوم، بل يعتبر سلوكا متجذرا وقديما تمت ممارسته بكيفيات مختلفة، وهو ما جعل المغرب يتوفر على رصيد لا يستهان به في هذا المجال، بداية بتأسيس بعض المجالس الثلاثية في مرحلة الخمسينات والستينات عنيت بحكم تركيبتها بالحوار الاجتماعي، كالمصالح الطبية الخاصة بالشغل سنة 1958؛ التي نص عليها الظهير الشريف رقم 1.56.093 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 2341 بتاريخ 6 شتنبر 1957، وأجرأها المرسوم رقم 2.56.248 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 2368 بتاريخ 14 مارس 1958؛ المجلس الأعلى للوظيفة العمومية بموجب الفصل 10 من الظهير الشريف رقم 1.58.008 (24 فبراير 1958)؛ ثم المجلس الأعلى للاتفاقيات الجماعية بموجب الظهير الشريف رقم 1.58.145 الصادر في (29 نوفمبر 1960) المنشور بالجريدة الرسمية عدد 2511 (9 دجنبر 1960)؛ وهو ما توج لاحقا بإحداث المجلس الوطني للشباب والمستقبل المنصوص عليها في الظهير الشريف رقم 1.90.190 بتاريخ 20 فبراير 1991 والذي تم نشره في الجريدة الرسمية عدد 4087 (27 فبراير 1991)؛ ثم المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي المحدث بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.94.297 الصادر بتاريخ 24 نونبر 1994. وتعتبر بداية التسعينات محطة مفصلية في بداية شيوع ثقافة الحوار الاجتماعي في القاموس السياسي والنقابي بالمغرب، وبعد ذلك انطلقت جولات الحوار الاجتماعي المركزي بين السلطات الحكومية والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية وممثلي المقاولات.
يمكن القول، بأن الإجماع الحاصل في الفترة الراهنة على الأهمية الإستراتيجية التي يحتلها الحوار الاجتماعي المركزي وتذكية روح التفاوض والتجاوب الإيجابي بين الأطراف السياسية ممثلة في الحكومة والاقتصادية ممثلة في أرباب المقاولات والمهنية ممثلة في المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، فرضته عدة اعتبارات، في مقدمتها تفعيل التوجيهات الملكية السامية التي تؤكد على ضرورة الحوار الاجتماعي، وذلك تماشيا مع المقتضيات الواردة في دستور 2011 وحفاظا على السلم الاجتماعي والاقتصادي وتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني، وأيضا مراعاة لالتزامات المغرب إزاء منظمة العمل الدولية المتمثلة في مصادقته على الاتفاقيات ذات الصلة بالموضوع.
1. التوجيهات الملكية السامية
شكلت مأسسة الحوار الاجتماعي مرجعية ثابتة لدى المؤسسة الملكية، التي خَصَّت هذا الموضوع بعناية واهتمام كبيرين في العديد من المناسبات. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الرسالة التي وجهها جلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في المنتدى البرلماني الدولي الثاني للعدالة الاجتماعية بتاريخ 20 فبراير 2017 بالرباط؛ حيث تمت الدعوة إلى مأسسة آليات الحوار الاجتماعي، بطريقة مبسطة في مسطرتها، واضحة في منهجيتها، شاملة لأطرافها، منتظمة في انعقادها، ذات امتدادات ترابية واضحة، مع توسيع موضوعات الحوار الاجتماعي لتشمل قضايا جديدة، كالمساواة الفعلية ومكافحة التمييز بين الجنسين في مجال العمل، بناء منظومة جديدة للحوار الاجتماعي باستحضار متطلبات المساواة واستحضار المقاربة الحقوقية والتزامات المغرب تجاه منظمة العمل الدولية واعتبار مأسسة الحوار الاجتماعي مدخلا أساسيا لتحقيق العدالة والتنمية المستدامة.
2: الالتزامات الدولية للمغرب تجاه منظمة العمل الدولية
أخذا بعين الاعتبار التزامات المغرب الدولية وفي مقدمتها مصادقته على سبع اتفاقيات أساسية من أصل ثمانية أصدرتها المنظمة الدولية للعمل؛ فالتزامه هذا يفرض عليه القيام بإجراء حوار اجتماعي مركزي بشكل منتظم ودوري وهو الأمر الذي يجد سنده في الاتفاقية رقم (98)، بشأن تطبيق مبادئ حق التنظيم النقابي، والمفاوضة الجماعية لسنة 1949؛ صادق عليها المغرب في 16 دجنبر 1957؛ والاتفاقية رقم 154 المتعلقة بتشجيع المفاوضة الجماعية لسنة 1891؛ صادق عليها المغرب في 2 غشت 2011، ثم الاتفاقية رقم 144 بشأن المشاورات الثلاثية لسنة 1976، صادق عليه المغرب بتاريخ11 سبتمبر 2013.
3.مقتضيات دستور 2011
يشكل تصدير دستور 2011 خاصة في شقه المتعلق بالعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم وبجعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية؛ عطفا على العديد من بنوده، التزاما دستوريا ملزما للحكومة واجب التفعيل والتطبيق. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى مقتضيات الفصل 8 من هذا الدستور الذي نص على مساهمة المنظمات النقابية للأُجراء، والغرف المهنية، والمنظمات المهنية للمشغلين، في الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها، وأكد على دور السلطات العمومية المرتبط بتشجيع المفاوضة الجماعية، وعلى إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية...؛ ثم الفصل 13 منه الذي يؤكد بدوره على مسؤولية السلطات العمومية المتمثلة في إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.
4. مدونة الشغل لسنة 2003
تضمنت مدونة الشغل العديد من المقتضيات المرتبطة أو ذات الصلة بالحوار الاجتماعي المركزي، وإن كان يصعب الإحاطة بها كلها، فإنه يمكن الإشارة إلى أكثرها اتصالا بالموضوع؛ من قبيل: اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة المنصوص عليها في المادة 564 من المدونة والتي تتكون بالتساوي من ممثلين عن الإدارة والمنظمات المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، ثم المجلس الأعلى لإنعاش التشغيل المنصوص عليه في المادة 522 الذي يعهد إليه بالمساهمة في تطوير الحوار والتشاور بين أطراف الإنتاج؛ والذي يتكون من ممثلين عن الإدارة وممثلين عن المنظمات المهنية للمشغلين والنقابات المهنية للأجراء الأكثر تمثيلا...، ثم مجلس المفاوضة الجماعية بموجب المادة 101 منها الذي يعنى بالمفاوضة الجماعية؛ ثم اللجنة الثلاثية التركيب المكلفة بتتبع التطبيق السليم للتشغيل المادة 496.
ثانيا: المنجزات المحققة على صعيد الحوار الاجتماعي المركزي -ثلاثي الأطراف- بالمغرب.
سبق وأكدنا أن المغرب، اهتم منذ الاستقلال بإنشاء بعض المؤسسات الوطنية للحوار الاجتماعي والتشاور والمفاوضة المهنية، إلا أن تجربته في ممارسة الحوار الاجتماعي انطلقت منذ الإعلان الرسمي عن التصريح المشترك لطرفي الحوار الاجتماعي والتوقيع عليه بشكل رسمي في فاتح غشت 1996، والذي جاء تنفيذا للتوجيهات الملكية الموجهة للحكومة بمناسبة خطاب عيد العرش بتاريخ 3 مارس 1996؛ قصد اتخاذ من التدابير والإجراءات ما يلزم للتخفيف ما أمكن من المشاكل الاجتماعية التي ازدادت حدة بعضها مع حلول الضائقة الناجمة عن الجفاف.
وبالرجوع لحصيلة الحوار الاجتماعي المركزي منذ سنة 1996 إلى يومنا هذا، نجد أن التجربة المغربية أفرزت ما مجموعه 7 حوارات اجتماعية مركزية على الشكل الآتي:
1. اتفاق فاتح غشت 1996؛
2. اتفاق 23 أبريل 2000؛
3. اتفاق 30 أبريل 2003؛
4. اتفاقات 26 أبريل 2011؛
5. اتفاق 25 أبريل 2019؛
6. اتفاق 30 أبريل 2022؛
7. اتفاق 30 أبريل 2024.
بالنسبة لموضوع الاتفاقات التي شهدها المغرب منذ سنة 1996 حتى سنة 2024، فقد شكل مطلب الزيادة العامة في الأجور سواء في القطاعين العام والخاص ومطلب إخراج التشريعات الاجتماعية لحيز الوجود خاصة القانون التنظيمي للإضراب وتبني مدونة للشغل واحترام الحريات النقابية طبقا لاتفاقيات منظمة العمل الدولية ... القاسم المشترك بينها، غير أن تفاعل الحكومة مع هذه المطالب اختلف من حكومة إلى أخرى، وهذا الاختلاف في التعاطي مع الملفات المطلبية للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية أملته السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي طرح فيها.
أما بخصوص الجهة الحكومية المشرفة عليه، فقد شكلت سنة 2011 بداية التحول الفعلي في التعاطي الحكومي مع المطالب الاجتماعية للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، وذلك بجعل سلطة الإشراف عليه تحت المسؤولية المباشرة للوزير الأول سابقا ورئيس الحكومة حاليا (اتفاق 26 أبريل 2011؛ اتفاق 25 أبريل 2019؛ اتفاق 30 أبريل 2022؛ اتفاق 30 أبريل 2024)، فقبل هذا التاريخ كانت مسؤولية الإشراف على المفاوضات المتعلقة بالحوار الاجتماعي المركزي تتولاها بعض القطاعات الوزارية بعينها ونذكر هنا السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية (اتفاق فاتح غشت 1996) أو السلطة الحكومية المكلفة بالتنمية الاجتماعية (اتفاق 23 أبريل 2000) وأحيانا بشكل مشترك بين السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية والسلطة الحكومية المكلفة بتحديث القطاعات العامة والسلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية والشباب (اتفاق 30 أبريل 2003).
أما من حيث التجاوب مع بعض المطالب الموضوعاتية، خاصة المتعلقة بالزيادة العامة في الأجور بالقطاعين العام والخاص، باعتبارها تحظى باهتمام الموظفين والأجراء، فقد لوحظ أيضا بأن هناك تطور نسبي مقارنة مع السابق، وهو أمر فرضته التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع المغربي في مقدمتها الزيادة في أسعار المواد الأساسية التي لها ارتباط وثيق بالمعيش اليومي للمواطن أو المستهلك.
وإذا ما حاولنا إجراء مقارنة بلغة الأرقام فيما يتعلق بالاستجابة الحكومية لمطلب الزيادة العامة في الأجور انطلاقا من جولة الحوار الاجتماعي المركزي لسنة 2011، نجد بأن اتفاق أبريل 2011 (الذي أشرفت عليه حكومة حزب الاستقلال) تمخض عنه زيادة صافية في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري تقدر ب 600 درهم. في حين أن اتفاق 25 أبريل 2019 (الذي أشرفت عليه حكومة حزب العدالة والتنمية) نتج عنه زيادة صافية في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري تقدر ب 500 درهم بالنسبة للسلاليم من 6 إلى 9، والرتب من 1 إلى 5 من السلم 10، في حين تمت إضافة زيادة قدرها 400 درهم للمرتبين في الرتبة 6 من السلم 10 وما فوق.
وبالاطلاع على اتفاق أبريل 2024 (الذي أشرفت عليه حكومة حزب التجمع الوطني للأحرار)، نجده توج بزيادة صافية في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري تقدر ب 1000 درهم. هذا إضافة إلى أنه لأول مرة يتم تبني ميثاق لمأسسة الحوار الاجتماعي تم التوقيع عليه بتاريخ 30 ماي 2022، حيث عمل على توسيع نطاق الحوار الاجتماعي باستحضار البعد الترابي من خلال اللجنة الجهوية للحوار الاجتماعي برئاسة والي الجهة، ثم اللجنة الإقليمية للحوار الاجتماعي برئاسة عامل العمالة أو الإقليم، كما تم تبني بالموازاة مع ذلك حوارات قطاعية أفضت لزيادة في الأجور بدورها.
ومن جهة أخرى، يمكن القول إنه لحد الساعة يبقى العرض الذي قدمته حكومة حزب العدالة والتنمية بموجب اتفاق 25 أبريل 2019 مع المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية أقل نسبة من حيث الزيادة العامة في الأجور مع إشارة إلى أنها تمت بمقاربة تمييزية بين موظفي القطاع العام، كما أن بعض الملفات الاجتماعية والقانونية التي ما زالت عالقة لحد الآن تعود لفترة حكومة حزب العدالة والتنمية كمشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بحق الإضراب؛ مشروع قانون رقم 24.19 يتعلق بالمنظمات النقابية؛ إصلاح أنظمة التقاعد ثم تعديل مدونة الشغل ...
على سبيل الختم:
يمكن القول أن احترام انتظام ودورية الحوار الاجتماعي المركزي مع الالتزام بأجرة وتنفيذ مخرجاته والحرص الحكومي على الاستجابة قدر المستطاع للمطالب النقابية خاصة المرتبطة بالزيادة العامة في الأجور والحرص على تقوية الدور التفاوضي للمركزيات النقابية، يشكل معطى إيجابي من شأنه أن يعيد لهذه الأخيرة وظيفتها في مجال الوساطة والتأطير أوقات الأزمات، سيما بعد أن فقدت هذا الدور بفعل تظافر العديد من الأسباب سواء الموضوعية أو الذاتية اللصيقة بالمركزيات النقابية نفسها...، وهو ما نتج عنه فقدان فئة عريضة من الموظفين والأجراء للثقة في العمل النقابي، وهذا المعطى تزكيه النتائج العامة لانتخابات ممثلي المأجورين في القطاعين العام والخاص لسنة 2021، التي احتل فيها اللامنتمون المرتبة الأولى وأدت لفقدان الذراع النقابي لحزب العدالة والتنمية نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب لصفة المركزية النقابية الأكثر تمثيلية، بحيث لم تستطع الحصول على العتبة التي تخولها هذه الصفة المحددة في المادة 425 من مدونة الشغل في نسبة 6% على الأقل من مجموع عدد مندوبي الأجراء المنتخبين، مع حفاظ ثلاثة مركزيات نقابية فقط على صفة أكثر تمثيلية ويتعلق الأمر ب: الاتحاد المغربي للشغل؛ الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل.