أنا أعلق الدعم، إذن أنا موجود..

الآن، أصبح من الواضح للجميع ، أن ''التشرنوبل الصينية" وضعت ترامب في وضع حرج لا يحسد عليه. يحاول أن يعالج أزمة فتقدف في وجهه أزمات أخرى أكثر تحديا. فالويلات في زمنه لم تؤت فرادى بل دفعة واحدة. العقل الترامبي اليوم أصبح مشتتا في متاهات المعركة الدونكيشوتية. يصارع على عدة جبهات بلا جدوى.

الاختبار الأول..

كانت كورونا بمثابة القشة التي كسرت ظهر أوروبا و أمريكا على وجه الخصوص. فقبل الزحف السريع للوباء في أمريكا، وضعت تقارير استخباراتية فوق مكتب ترامب منبهة إياه بالخطر القادم من الصين، ثم بعد ذلك في أواخر يناير وجه اليه مستشاره الاقتصادي بيتر نافارو مذكرتين جاء فيهما أن فيروس كورونا قد يقتل ما يزيد على نصف مليون شخص في الولايات المتحدة وسيكلفها ستة تريليونات دولار من الخسائر الاقتصادية. رغم هذه التحذيرات المبكرة، لم يكن ترامب يأخد الأمور بالجدية و الحزم المطلوبين بل تجاهل المسألة و ركز اهتمامه على البورصة و الدولارات، و استمر يطمأن الرأي العام الأمريكي أمام الصحافة بأن الأمور under control”" و لا شيء يدعو للقلق، و يغرد خارج السرب بالقول بأن " الإعلام المزيف والديمقراطيين يقومون بكل ما لديهم من قوة لمضاعفة المخاوف من فيروس كورنا في الوقت الذي يؤكد فيه الخبراء أن مخاطر الفيروس ضئيلة جدا على المواطنين الأميركيين"، فيما وصفت وسائل إعلامه المفضلة التحذير ب ''الخدعة الليبرالية".

أمريكا أولا..

لما وصل عدد الإصابات والوفيات الى مستوى قياسي في ظرف زمني وجيز ، رفع ترامب شعار ''أمريكا أولا ''في كل شيء وهدد الدول بالانتقام في حال منافستها على الكمامات الطبية التي بدت السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة و التخفيف من حدة القتلى، فقد يخوض حربا عالمية بسببها في حال عدم الحصول عليها. هكذا فقد قرصنت إدارة ترامب شحنة طبية تيلاندية كانت متجهة الى برلين في خرق أخلاقي سافر لقواعد التجارة الدولية. و لأن الانتخابات على الأبواب فترامب لا يدرك تصرفاته الغريبة التي تصدر عنه بقدر ما يعي أنه "يجب'' الفوز بالولاية الثانية و هو بذلك يحاول أن ينتهز الفرصة للظهور بمظهر '' الأب" الحريص على مصالح أولاده و المدافع الشرس عن حاجياتهم من جهة، و يثير انتباه الناخبين المحتملين لحشد التأييد بعد التسونامي الضخم من الانتقادات التي وجهت إليه بسبب سوء إدارته للأزمة خاصة عندما اعتبر الفيروس مجرد إنفلوانزا عادية ،من جهة أخرى.

الوباء يفشل ترامب..

الانشار السريع للوباء في أمريكا التي تعتبر الأقوى عسكريا في العالم كشف عن هشاشة خطة ترامب لمحاربة العدو البيولوجي الخفي. وجد هذا الأخير نفسه أمام كارثة عظمى لم يسبق أن عاشتها البلاد في عصرها الحديث، فالإصابات و الوفيات في ارتفاع مهول و مقلق في الآن نفسه لسمعة إدارته. لتبرير فشله الذريع في مواجهة الوباء، قام ترامب بافتعال أزمة مع الصين في محاولة عنصرية منه لتحميلها المسؤولية عن انتشاره، ناعتا إياه بالفايروس الصيني و هي الأسطوانة التي أخدت ترددها الوسائل الإعلامية اليمينية التابعة له. و الجدير بالتذكير، أن ترامب سقط مرارا ضحية تناقضات في تصريحاته بشأن الصين، فتارة يمدح جهودها و شفافيتها و تارة ينتقدها بتكتمها على المعلومات و الأنباء، علما أنه كان يملك قبل أشهر تقارير تشير الى خطورة الى الوضع. رغم ذلك، مازال ينتقد الصين ويتمنى لو تم اخباره في وقت مبكر.

ترامب يبحث عن شماعة اخرى

في الوقت الذي تتصارع فيه الدول من أجل القضاء على المرض الفتاك بشتى الطرق المتوفرة، ذهب ترامب الى معاتبة منظمة الصحة العالمية معتبرا إياها بالانحياز للصين و تسترها على المعلومات، قائلا في تغريدة على تويتر: «أفسدت منظمة الصحة العالمية الأمر بالفعل لسبب ما، ورغم أنها ممولة من جانب الولايات المتحدة، إلا أنها تركز على الصين، سنلقى نظرة على هذا الأمر". وبالفعل، ألقى نظرة وقرر تعليق الدعم المخصص للمنظمة و أثار الضجة مرة أخرى. قرار قطع التمويل عن المنظمة في هذا الوقت بالذات و في خضم جائحة أصابت ما يزيد عن 2 مليون شخص و اكثر من 451 الف وفاة، أبان عن أنانية ترامب مبررا ذلك بكون الشعب الأمريكي أولى بها. و هذه ورقة أخرى أحرقت بلا فائدة.

هذا السلوك كان متوقعا من رجل مثل ترامب الذي لا يحترم الاتفاقيات الدولية؛ ففي عام 2017، سحب الولايات المتحدة من اليونسكو و اتفاقية باريس للمناخ، ثم لاحقا من الاتفاق النووي الايراني. الانسحاب يعني العزلة. فهل ترامب يعزل بلده عن المجتمع الدولي؟

ردود الفعل تجاه هذا القرار كانت كثيرة. داخليا، تعرض لهجمة شرسة من خصمه السياسي و من وسائل الاعلام و المواطنين.. خارجيا، وصف سايمون كوفيني ، وزير خارجية أيرلندا ، وهي دولة لها علاقات وثيقة بشكل استثنائي مع الولايات المتحدة ، قراره بقطع الأموال عن منظمة الصحة العالمية بأنه "قرار لا يمكن الدفاع عنه ، في خضم جائحة عالمية"، و علق وزير خارجية المانيا من خلال تغريدة على تويتر بكون '' اللوم لا يساعد و الفيروس لا يعرف حدودا". ووصف مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس، أحد أبرز مموّلي المنظمة، خطوة ترامب بأنها "بخطورة ما تبدو عليه". في حين قال المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس إنّ وقف تفشي الوباء كان "محطّ تركيز" المنظمة. وأضاف في تغريدة على تويتر: "ليس لدينا وقت لنضيّعه". أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فقد علق بالقول بإنّ "هذا ليس الوقت" لقطع الموارد عن منظمة الصحة العالمية.. هكذا تتوالى الإدانات و التعليقات..

من الواضح أن قرار تعليق الدعم سيضر بعمل المنظمة إذا أخدنا بعين الاعتبار حجم التمويل الذي تقدمه الولايات المتحدة الأغنى دولة في العالم. فهي تساهم بنسبة 15 في المئة في ميزانيتها. أي ما يقارب 400 مليون دولار سنويا. و هو مبلغ ضخم إذا ما قرناه بباقي الاشتراكات للدول الأخرى. وهي تساهم أيضًا بالحصة الأكبر في 80٪ المتبقية من المساهمات الطوعية.

لا وقت للسياسة..

في واقع يزداد سوء و ينذر بالأسوأ في الأيام القادمة، و في ظل عالم أصبح منعزلا و منغلقا على ذاته جراء حزمة من القرارات و الإجراءات كالحجر المنزلي و اغلاق المدارس و المطارات.. التي أثرت بشكل كبير على أجزاء كبيرة من المجتمع والاقتصاد العالمي، على الدول و قادتها أن تترك السياسية جانبا و تفكر في الإنسانية و التعاون و التضامن و تبحث عن استراتيجية '' الخروج '' من الأزمة بشكل منسق و مشترك. و لن يتأتي ذلك إلا بدعم الجهود الدولية، خصوصا الطبية منها، من أجل البحث عن اللقاح أو العقار لوقف زحف كورونا. نحن في حاجة إلى بعضنا البعض أكثر من أي وقت مضى، نحن في حاجة إلى الاتحاد و ليس إلى التحدي. و هذا ما حث عليه مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم، غداة هجوم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على المنظمة، قائلا '' على الأكثر قوة أن يقود الطريق، ويرجى التوقف عن تسييس فيروس كورونا". داعيا في الوقت ذاته إلى "التضامن الصادق على المستوى العالمي والقيادة الصادقة من قبل الولايات المتحدة والصين". على نفس المنوال صار حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو قائلا " لا وقت الآن للسياسية، و ليس الوقت للقتال، علينا أن نعمل معا لمواجهة تحديات كبيرة''.