الرئيسية | أقلام حرة | من برشلونة أناديكم – 3 -

من برشلونة أناديكم – 3 -

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
من برشلونة أناديكم – 3 -
 

 

...حلم العودة إلى الوطن الأم، هل هو استسلام؟ أم اعتراف بالجميل ؟ أم الإيمان بالقضاء والقدر؟، إن تجربة الغربة لا تضع أمامك العديد من الاختيارات ، أو بالأحرى تضعك أمام اختيارين لا ثالث لهما ، إما أن تخوض هذه التجربة التي ستتمخض عنها اكراهات وتحديات جمة بكل ثقة في النفس ، وهذا لا يعني أنها سلبية في جل أطوارها ،أو تعود من حيث أتيت حين لا يسعفك حضك ، واستعدادك النفسي في مواجهة ثقافة غربية لا تربطك ببلدك الأم ، فعلى الشخص المغترب أن يضع أمامه هدفا معينا ينسيه ألم البعد عن الأهل والوطن، وفي نفس الوقت عليه أن يدلل الصعوبات والمغريات التي قد تطارده في بلاد الغربة، كصعوبة الاندماج في مجتمع غربي مادي، لا يَستحضر في معاملاته اليومية، وعوالمه بصفة عامة، الجانب الروحي، أو العكس قد تجد بعض الأشخاص ينسلخون عن ثقافتهم وهويتهم المغربية الإسلامية ، إلى درجة يصيرون في تقليدهم الأعمى للشخصية الغربية، أشبه بالقصة الطريفة التي حصلت للغراب مع الحمامة ، ففي الوقت الذي حاول فيه الغراب محاكاة و تقيلد مشية الحمامة التي تزيدها غنجا و استعلاء ، وجد نفسه بعد أن فشل في تقليده الأعمى للحمامة ، غير قادر على استحضار مشيته الأصلية التي لازمته وميزته منذ نشأته الأولى، وهذا ما يحصل للعديد من المغتربين الذين يظنون ويتوهمون أن بقاءهم واندماجهم في المجتمع الأوربي يقتضي منهم إتباع مِلَّته ، وتبني سلوكياته وإحياء سهراته وحفلاته الماجنة، مصداقا لقوله عز وجل ،)) ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع مِلَّتهم (( ،“ سورة البقرة “ ، ومع ذلك نحن نحترم ونُثمِّن مجهودات كل شخص عمل جاهدا على تكريس ثقافته المغربية الإسلامية ببلاد المهجر ، وفي نفس الوقت، فتح قنوات التواصل والحوار مع غير المسلمين ، في جو ومناخ يسوده الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي.

 

وبالرجوع إلى حلم العودة ،وهذا ما خلصت إليه، و سيطر على فكري وضغط على نفسيتي ، طيلة مدة إقامتي بمدينة برشلونة الاسبانية ،فرغم أن هناك نقاط التقاء وتشابه بين هذه المدينة ، و بين مسقط رأسي ونشأتي مدينة طنجة الحبيبة ، ولاسيما ، على المستوى المناخي والثقافي، إلا أن منطق العودة وظروفها كان أقوى من هذه النقط المشتركة، بحيث اكتمل نصاب الهجرة المعاكسة بالنسبة إلي، فكما سبق و أن أشرت ، فحين خانني جسدي، الذي خارت قواه بمجرد أن ألم به مرض مزمن كاد أن يشل حركتي إلى الأبد، في بلد لا يؤمن ولا يعترف بوجود ضعاف الأنفس والأبدان على أرضه،وجدت نفسي مضطرا لتسديد سومة الكراء ، ونفقات المأكل والمشرب ، من خلال الاستسلام للأمر الواقع وهو أن أمتهن مهنا لم تخطر لي على بال ، فكل المهن التي حاولت أن أتأقلم معها وأفرض ذاتي بها، في تلك المدينة الاقتصادية العملاقة، وجدتها تخاطب لغة الجسد وتختبر مرونته، في الوقت الذي كنت أراهن فيه على إيجاد، أو اقتناص فرصة عمل تناسب قدراتي البدنية، التي أصابها تصدع، وقدراتي الذهنية المرتبطة بتكويني العلمي والشواهد العلمية المحصل عليها، فشاءت الأقدار أن أحمل الأثقال في مصنع لتركيب الصنابير المائية ، وتجهيز حمامات المباني السكنية، وقبله في شركة لتوزيع لحم الخنزير على المحلات التجارية الكبرى ، والمطاعم و الحانات، وكان لي موعد آخر في اختبار لياقتي ولباقتي، بأشهر مطاعم برشلونة الذي كنت أقضي به معظم وقتي، حيث كان الليل والنهار بالنسبة لي وجهان لعملة واحدة ، وهو الحضور الذهني وحسن المظهر ، بالإضافة إلى الحضور الجسدي الذي يجب أن يقاوم ويتحمل الضغط البشري وسرعة الحركة، فالقاسم المشترك بين كل هذه المهن هو استنزاف مخزوني البدني الذي كان يتناقص كلما عرَّضتُ عمودي الفقري لصدمات فجائية، التي أرسلتني في كثير من المناسبات إلى بعض المصحات قصد تلقي العلاجات الضرورية ، والعودة بعد ذلك لممارسة رياضة حمل الأثقال التي كانت

 

مفروضة عليّ، وفي هذه الظروف الحرجة التي تجرعت مرارتها ، كنت أجد السند والدعم النفسي والإنساني والأسري...، في أختي البكر التي تكبدت وتقاسمت معي العديد من الخسائر المادية والنفسية، حيث كانت تتوقف عن العمل في أكثر من مناسبة لتقدم لي الدعم على جميع المستويات ، وهذا الأمر كان يأتي على حساب أسرتها الصغيرة ، ومصالحها الشخصية، فماذا عساني أن أقول في أخت نذرت وقتها وحياتها ،مع نكران للذات ،في خدمة أسرتها وأبنائها ... !، وكل هذه الظروف القاسية التي عايشتها في صمت ، ما كان لفؤاد والدتي أن يهدأ ويعرف السكون، وأنا أعاني على جميع المستويات، بل كانت تصلها رسائل ربانية في جوف الليل ، تخبرها والحالة التي أنا عليها هناك، هنا سأقف وقفة تأمل ومراجعة للذات ، بحيث توصلت إلى قناعة مفادها أن انعدام التوفيق الذي طاردني وأنا بعيد عن الأهل الوطن ، مصدره عدم رضا الوالدة على تلك الخطوة التي أقدمت عليها وأنا شاب لم يكتمل نضجي الفكري والإنساني ، لأميز بين ما يدخل في خانة رضا الوالدين وما يؤدي إلى سخطهما، حينها ولأقطع كل الشرايين التي ربطتني ببلاد الغربة ، رفعت أكفي إلى السماء راجيا من العلي القدير أن يوفقني ، وأنا بين أحضان أسرتي ووطني، للخير ويعينني عليه، وأن يمتعني بالصحة والعافية ، وهذا ما تحقق بمجرد أن وطأت قدماي أرض طنجة ، التي أجريت بها عملية جراحية على مستوى عمودي الفقري، التي تكللت بالنجاح، حيث عادت أطرافي السفلى لتتجاوب وتتواصل مع أطرافي العليا في تناغم وانسجام، وفي نفس الوقت طلبت من الباري عز وجل أن يجود علي بفرصة عمل أحفظ بها ماء وجهي ، ويبعدني عن حرج الإجابة عن سؤال العودة الذي واكبني من طرف أقراني وأفراد من عائلتي، منذ أن حسمت في مسألة العودة ، وبتوفيق من الله وبفضل رضا الوالدة أطال في عمرها ، تحقق المراد وفُتِّحت أمامنا أبواب الخير والنعم فدخلت من أوسع أبوابها ، وها نحن اليوم نحصد تمار صبرنا وشكرنا على نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، وامتثالنا لخطابه الذي أوصانا فيه خيرا بأمهاتنا ، “ فالجنة تحت أقدام الأمهات “ ، كما قال نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وخلاصة القول أن السدد الرباني لا يتحقق إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، وبر الوالدين ، إلى جانب الصدق في القول والعمل، وهذا هو خلاصنا دينيا ودنيويا...يتبع...

مجموع المشاهدات: 1228 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة